مشكلة الفينيقيين الجدد
تتكرر في لبنان وسوريا ومصر مشكلة العنصرية، التي تلبس ثوبا دينيا مذهبيا في ايام، وثوبا عرقيا حضاريا في ايام اخرى. مسيحيو لبنان وسوريا ومصر، والعلويون وآخرون ممن يطلقون على انفسهم تسمية أقليات، يقدمون تصورا مفاده انهم السكان الأصليون في هذه الدول، قبل ان يجتاح العرب المسلمون المنطقة اثناء الفتوحات الاسلامية في القرن السابع، ويحتلوا المنطقة، ويعرّبوها، فيما هم يستكملون اليوم ١٤ قرنا من أسلمتها.
وفي مخيلة الاقليات انهم ليسوا عربا، لأن العرب ودينهم الاسلامي هم سكان بداوة وصحارى وخيام شعر. والعرب برابرة غير حضاريين. اما الأقليات فهم السكان الاصليون من فينقيين وآرام وسريان، وحضارتهم هي حضارة البحر الابيض المتوسط الاوروبية. هكذا يتأرجح الاقلويون في عداوتهم لمن يرونهم غزاة، فاذا كان الغزاة مسلمين، يصبح الاقليون مسيحيين، واذا كان الغزاة عربا، يصبح الاقليون فينيقيين اوروبيين.
هذه الحزبية في تفسير التاريخ ظهرت مع صعود القومية الاوروبية، بعدما اعتبرت اوروبا انها الحضارة الانسانية الاقدم والاسمى، وابتكرت رواية مفادها ان الحضارة بدأت مع اليونان والرومان، اجداد الاوروبيين، وان كل ما عدا ذلك من الشعوب هم في مصاف البرابرة. وسارع اقلويو الشرق الى ربط تواريخهم مع اليونان والرومان وابعاد انفسهم عن العرب، مستندين بذلك الى المسيحية التي تجمع غالبية الاوروبيين مع غالبية الاقلويين. هكذا اصبح شارلمان ملك فرنسا والمانيا جد مار مارون حسب روايات من صنفوا انفسهم فينقيين.
لكن الفينيقيين، ومعهم الآرام والسريان، شعوب سامية كنعانية، وهم يشتركون في ساميتهم مع العبرانيين والعرب، وتتشابه كل لغاتهم السامية، التي تختلف عن اللغات الاندو اوروبية: اليونانية واللاتينية، وحتى الفارسية والتركية.
وبسبب استماتتهم للربط مع اوروبيتهم المزعومة، قلب الفينيقيون الجدد تاريخ اجدادهم الفينيقيين من اسياد اوروبا الى تابعيها وموظفي امبراطوريتها، فاليونان القدماء اقتبسوا ابجديتهم وعلومهم عن الابحار عن الفينيقيين، والرومان عانوا من اجتياحات هنيبعل الفينيقي الليبي، وعانت روما مئات الهزائم امام الفينيقيين على مدى قرون خلت، قبل ان تتغلب على فينيقيي تونس.
مشكلة الفينيقيين الجدد انهم، الى تغليبهم العصبية الحزبية على التاريخ، سمحوا لغير المؤرخين في كتابة تاريخ عجيب غريب، اقرب الى الانبطاحية امام الغرب، منه الى التباهي بحضارتهم الغابرة. وكان من المؤرخين بطريرك الموارنة اسطفان الدويهي، واستاذ العربية فؤاد افرام البستاني، واليوم استاذ الفرضيات في جامعات اميركا نسيم طالب.
وطالب هذا حقق نجاحا باهرا وشهرة في شؤون اختصاصه، لكنه حبذا لو حصر نظرياته في اختصاصه وترك التاريخ لأهله.
قبل ايام، ثارت ثائرة طالب بعدما بثت قناة “بي بي سي” البريطانية تقريرا جاء فيه ان السيد المسيح كان فلسطينيا اسمر البشرة، مثل اللاجئين السوريين الذين ترفض استقبالهم اوروبا ولبنان. غرّد طالب ان سكان المشرق ليسوا سمرا، بل يتماهون في اشكالهم وشعوب جنوب اوروبا. ثم بثّ طالب صور تماثيل قياصرة روما ذوي الجذور الليبية او السورية - اللبنانية، من امثال كركلا وفيليب العربي، الذي حول طالب اسمه الى فيليب السوري، ودعا الى التمعن في تقاسيم وجهي كركلا وفيليب، معتبرا انها تشبه الاوروبيين ولا تشبه العرب.
طبعا يعرف اي مبتدىء في دراسة التاريخ انه قبل انتشار التصوير الفوتوغرافي منتصف القرن التاسع عشر، كانت كل رسومات وتماثيل الزعماء في التاريخ تعكس مزاج راسمها او ناحتها. حتى رئيس اميركا الاول جورج واشنطن، الذي ينتشر رسمه على ورقة الدولار الواحد، هو رسم تقريبي واحد من بين الرسوم العديدة المتوفرة والمتضاربة للرئيس المؤسس.
الفينيقي طالب ليس مؤرخا، بل يتعدى على المهنة، ويسقط عليها نزواته السياسية وعصبيته القبلية، ولكنه بسبب شهرته، تتحول نظرياته الخنفشارية عن التاريخ الى حقائق دامغة يتناقلها الحزبيون من امثاله.
كغيره من الفينيقيين، يتخبط طالب في هويته العرقية، وتاليا السياسية، ويقدم نفسه على انه “متوسطي” نسبة للبحر الابيض المتوسط، وينفي انه شرق اوسطي، فيما “الشرق اوسطية” هي الهوية التي تباهى بها الاقلويون من مناصري الرئيس الاميركي المنتخب دونالد ترامب يوم ارادوا تأييده، وفي الوقت نفسه تفادي اطلاق تسمية “عرب” على تجمعهم، ومحاولة اخفاء مذهبهم، لاظهار ان لترامب تأييداً خارج الدوائر المسيحية المذهبية.
لا بأس لو يقرأ طالب والفينيقيون بعض التاريخ، الذي قد يساعدهم في التوصل الى تسمية موحدة حول هويتهم، وقد يجدون في الوقت نفسه ان لا ضير في ان يكونوا فينيقيين لبنانيين عرب فخورين، وهو ما قد يحل لهم مشاكلهم السياسية المزمنة وأزمة هويتهم.