“قوات صحوات” ايرانية
قد يبدو نظام الجمهورية الاسلامية في ايران عقائديا، ولكنه عكس ذلك تماما. لم تتأخر طهران في الانفتاح على المعارض العراقي الراحل احمد الجلبي، الذي وقف يوما امام مؤتمر اللوبي الاسرائيلي في واشنطن (ايباك) ليصور الحياة زهرية للاسرائيليين في حال اقتلاع صدام حسين والتخلص من “حزب الله” اللبناني. تواصلت ايران مع الجلبي، فانقلب من أكثر المقربين من نائب الرئيس الاميركي السابق اليميني المتطرف ديك تشيني الى أقرب مقربي “قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الايراني” الجنرال قاسم سليماني.
ومثل الجلبي تعاملت ايران مع المعارض اللبناني ميشال عون، الذي عاد الى كنف “حزب الله” بعد أقل من سنتين على وقوفه، برعاية دانيال بايبس واصدقاء اسرائيل الآخرين، امام الكونغرس الاميركي، ليتهم الحزب بالارهاب ونظام الرئيس السوري بشار الأسد باحتلال لبنان. وبعدما جرّب الحزب الجنرال اللبناني لأعوام عديدة واطمأن لإخلاصه، منحه أمنية حياته بإيصاله الى منصب رئيس لبنان.
وكما الجلبي وعون، كذلك سعد الدين الحريري، الذي أسقط “حزب الله” حكومته الاولى اثناء جلوسه في المكتب البيضاوي بضيافة الرئيس الاميركي باراك أوباما. هدد الحريري “حزب الله” مرارا، وقال لهم “أعلى خيلكم إركبوه”، فأخرجه الحزب الى المنفى، ولم يقبل عودته الا بعد توبة نصوح. ألّف الحريري حكومته الثانية برعاية “حزب الله”، وتخلى فيها عن “المحكمة الدولية” لمحاكمة قتلة والده بداعي انه، اي سعد الحريري، يسعى لحقن الدماء.
النموذج الواقعي الايراني في التعامل مع الخصوم وصل اليوم الى العراق وسوريا. لا تمانع ايران في مصادقة البعثيين العراقيين السابقين. تدرك طهران ان الحرب مرحلتان: الاولى اجتياح والثانية الحفاظ على الأرض. وتدرك طهران ايضا انه يمكن لميليشياتها ان تجتاح أراض هي غريبة عنها، ولكن لا يمكن لهذه الميليشيات الحفاظ على الارض من دون ان تبدو قوة احتلال. هكذا، فتحت ايران قنوات التواصل مع زعماء العشائر السنية غرب العراق وشرق سوريا، ووعدتهم بالتمويل والتسليح مقابل وقوفهم في صفها. العرض الايراني يشبه “خطة زيادة القوات” الاميركية في العراق، والتي استعاد فيها الاميركيون السيطرة على اراض عراقية، ثم سلّموها الى مقاتلي عشائر أطلقوا على انفسهم اسم “قوات الصحوات”. ومد الاميركيون الصحوات بالمال والسلاح.
بعد انسحاب اميركا من العراق نهاية 2012، انقض رئيس الحكومة العراقي السابق نوري المالكي على الصحوات وزعماء السنة واعتقلهم، ونكَّل بهم، وقضى على بعضهم الآخر في مسعى لتثبيت زعامة شيعية كان يبنيها في مواجهة ايران. وساعد المالكي سحب واشنطن دعمها المالي والسياسي للصحوات، فانهارت والتجأ من تبقى منها الى المجموعات المسلحة المصنفة ارهابية. لكن سذاجة أوباما وسعيه لمصادقة ايران دفعت واشنطن في ما بعد للتخلي عن المالكي، فاستبدلته ايران برجلها حيدر العبادي. وعندما حاولت أميركا اعادة احياء الصحوات وتسليح البيشمركة لمواجهة داعش، رفض العبادي، على الارجح بتوجيهات ايرانية، اي قناة اميركية مستقلة مع العشائر. اذ ذاك نزل المستشارون العسكريون الاميركيون في العراق في ضيافة الميليشيات الموالية لايران، لقتال “الدولة الاسلامية” سوياً.
ومع تخلي بعض العواصم العربية عن حلفائها، لم تجد عشائر السنة بدا الا الموت، فرمت ايران للعشائر حبل النجاة، وعرضت المال والسلاح والصداقة، مقابل الولاء، وهذا ترتيب عشائري قديم قدم التاريخ.
اما آلية خلق الزعامات العشائرية السنية فهي على الشكل التالي: تحاول ايران او حلفاؤها اولا التواصل مع زعماء العشائر من الصف الاول، وتقنعهم ان الجهة الراعية لهم اما انهارت او تخلت عنهم، وان مصلحة العشيرة تكمن في تبديل الولاء. اما في حال رفض زعيم الصف الاول تبديل الولاء، تنتقل ايران الى زعماء الصفين الثاني والثالث، وتختار من ترى فيهم طموحا وقدرات، وتمدهم بدعم تأمل في ان يساهم في تغلب زعماء الصف الثالث على الصف الاول.
هكذا استضاف احد حلفاء ايران في جبل لبنان الجنوبي زعيماً مغموراً من قبيلة البكارة، الذي جال في لبنان والتقى حلفاء ايران الآخرين لتوثيق الأواصر وتثبيت الزعامة. ربما بعد عقد أو اكثر، يحل زعماء الدرجة الثالثة في الصدارة، بالضبط كما خرج “حزب الله” من أزقة المستضعفين اللبنانيين الى دائرة الاضواء العالمية.
ايران تتفوق على خصومها، لا لأنها تجترح المعجزات، بل لأنها تلتزم بقواعد السياسة كما تعرفها منطقة شرق المتوسط منذ الاف السنين. اما خصوم ايران، فحائرون يتقلبون في قياداتهم وتحالفاتهم ومواقفهم، وغالبا ما ينقلبون على بعضهم البعض ويكيدون لبعضهم البعض اكثر بكثير مما تكيد ايران لهم، فتفوز ايران، ويخسرون.