الأسد وانقلاب المزاج الاميركي
سرقت العريضة التي وقعها ديبلوماسيون أميركيون ضد سياسة الرئيس باراك أوباما تجاه سوريا، والتي وصفها الزميل ساطع نورالدين عن حق بـ “مقالة رأي من الدرجة الثانية”، الاضواء من وثيقة تفوقها أهمية بكثير صدرت في الوقت نفسه. وتعكس الوثيقة الاكثر جدية انقلابا في المزاج الاميركي في السياسة الدولية، وخصوصا تجاه الحرب السورية ومستقبل الرئيس السوري بشار الأسد.
في “مركز أميركا للابحاث الامنية” اصدرت مجموعة من 35 خبيرا وباحثا وديبلوماسيا سابقا من الوزن الثقيل وثيقة حملت عنوان “الحاق الهزيمة بالدولة الاسلامية: مقاربة من الاسفل الى الاعلى”. وتصدر موقعي الوثيقة ميشال فلورنوي، وهي مسؤولة سابقة رفيعة المستوى في وزارة الدفاع (بنتاغون)، رفضت ترشيحها الى منصب وزيرة خلفا لتشاك هيغل، الذي طرده أوباما. ربما تراهن فلورنوي على الفوز بمنصب وزيرة دفاع في عهد ادارة جديدة، بدلا من شغله في السنة الاخيرة من عهد رئيس صارت احدى قدميه خارج البيت الابيض.
الوثيقة هي حصيلة ستة اشهر من النقاشات لمجموعة “كيفية التعاطي مع داعش”، وهي لقاءات رعتها فلورنوي، وشارك فيها 34 من المعنيين بالشأن السوري. وكان لافتا ان عددا من الاسماء المشاركة، والموقعة على وثيقة التوصيات المنبثقة عن اللقاءات، تتضمن شخصيات معروفة بتأييدها فتح حوار مباشر وغير مشروط مع الأسد لالحاق الهزيمة بداعش، من امثال السفير السابق في العراق ريان كروكر، والاكاديميان المؤيدان للأسد مارك لينش وجوشوا لانديس، الى جانب اسماء اخرى مؤيدة للاطاحة عسكريا بالأسد كمقدمة لحل سياسي في سوريا، من امثال بطل حرب العراق ومدير الاستخبارات السابق دايفيد بترايوس.
وتقدم وثيقة فلورنوي تصورا لسياسة أميركا الخارجية المتوقعة في عهد الادارة المقبلة، بغض النظر عن هوية الرئيس، اذ ان المشاركين في صياغتها وتبنيها هم من الحزبين الديموقراطي والجمهوري، ما يشي بأن المزاج الاميركي العام تغير كثيرا على مدى السنوات الثماني الماضية.
وكان “مركز أميركا للابحاث الامنية” نفسه قدم في تموز (يوليو) 2008 وثيقة حملت عنوان “قيادة استراتيجية: اطار استراتيجية أمن قومي للقرن ال21”. حينذاك، تبنى الوثيقة ثمانية ممن تبوؤا في ما بعد ارفع المناصب في ادارة أوباما، كوكيل وزير الخارجية الحالي انتوني بلينكن. وقدمت الوثيقة الماضية الباحثة سوزان رايس، التي شغلت منصبي سفيرة أميركا في الأمم المتحدة وتعمل اليوم مستشارة الأمن القومي لأوباما.
في وثيقة العام 2008، كانت أميركا مثخنة بالجراح عسكريا بسبب حربي العراق وافغانستان، وكانت على شفير كارثة مالية، ولم يلبث “الركود الكبير” ان حصل منتصف ايلول (سبتمبر) من ذاك العام. وترافق التراجع الاميركي مع صعود دول بريكس، اي البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب افريقيا، اقتصاديا وعسكريا وسياسيا.
كانت وثيقة الباحثين رايس وبلينكن وصحبهما بمثابة اعادة نظر في جدوى استخدام القوى العسكرية الاميركية، وتحدثت حينها عن ضرورة اعادة بناء القوة الاميركية، والاستناد الى الديبلوماسية ومشاركة الزعامة العالمية مع القوى الصاعدة في ادارة العالم وشؤونه.
اما في وثيقة “الحاق الهزيمة بالدولة الاسلامية” الصادرة هذا الشهر، فعودة للحديث عن الاستعانة بالقوة العسكرية الاميركية، ودعوة لتسليح المعارضة السورية ولتوجيه ضربات لقوات الأسد، ولاقامة احزمة “منع قصف جوي” مثل الذي تقوم به قوة الأسد الجوية حاليا. وتطلب الوثيقة الجديدة تمويل المعارضة السورية، لا عسكريا فحسب، بل على صعيد الخدمات المدنية لتمكينها من حكم المناطق الخاضعة لسيطرتها وتقوية مقدرتها على الحكم استعدادا لمرحلة التسوية.
و تدعو الوثيقة الجديدة الى الابقاء على العراق وسوريا بحدودهما الحالية، لكنها تطلب تطبيق لامركزية واسعة تسمح للمكونات المختلفة للشعبين بممارسة انواع من الحكم الذاتي.
في العام 2008، كان يسيطر على المزاج العام الاميركي ودوائر صنع القرار شعور بأفول القوة الاميركية، وهو شعور ساهم في صياغة سياسة انسحابية اتقنها أوباما، ثم رماها على رؤوس السوريين والعراقيين. في العام 2016، تغير المشهد العالمي والاميركي. استعادت أميركا ثقتها بقوتها، وعكف خبراؤها، ممن يطمحون للوصول الى مناصب حكومية، على صياغة سياسة تختلف جذريا عن سياسة أوباما.
في العام 2008، كانت ايران والأسد ينتظران بفارغ الصبر وصول الرئيس الاميركي الانهزامي المنتظر. اما في العام 2016، فامام ايران والأسد، على ما يبدو، ستة اشهر فقط قبل ان يتغير المزاج الاميركي من انهزامي الى اكثر مواجهة.