دمشق لإيران والجولان لإسرائيل
فيما كان المعنيون في السياسة الخارجية في العاصمة الاميركية يتجادلون حول الصراع السعودي - الايراني، وقبل ان ترتفع الضوضاء حول حادثة اعتقال ايران عشرة من البحارة الاميركيين، وقبل ان يطلّ الرئيس باراك أوباما ليدلي بخطاب “حال الاتحاد” السنوي، افتتحت واشنطن اسبوعها السياسي بحدث بقي بعيدا عن الاضواء نسبيا، ولكنه كان لا شك الحدث الاهم لمجريات الاوضاع في منطقة الشرق الاوسط.
في ضيافة مركز ابحاث “وودرو ويلسون”، حضر مدير عام وزارة الخارجية الاسرائيلية دوري غولد ليشارك في ندوة كان هو أبرز متحدث فيها. طبعا المركز ليس من مراكز الابحاث الاميركية ذات الوزن الثقيل، وغولد من قياديي الصف الثاني في اسرائيل. هذا في الشكل.
لكن في المضمون، يكتسب “وودرو ويلسون” اهمية لأن القيمين عليه هم من المقربين من نظام الجمهورية الاسلامية في ايران، ولأن غولد هو ارفع مسؤول اسرائيلي في السياسة الخارجية نظرا لأن وزير الخارجية الفعلي هو رئيس حكومة اسرائيل بنيامين نتنياهو شخصيا.
غولد تحدث في أمور متنوعة، لكن اللافت في حديثه تمحور حول سوريا، وجاء مرمزا، ربما ليفهمه مضيفوه الايرانيون وينقلونه لاصدقائهم في طهران.
حول مستقبل الرئيس السوري بشّار الأسد، قال غولد ان اسرائيل لا تتدخل في شؤون سوريا الداخلية، وتحترم اي رئيس يختاره السوريون. قد يبدو تصريح غولد هذا متوازناً وعادلاً وبعيداً عن الانحياز، الا ان تصريح المسؤول الاسرائيلي يتطابق مع ما يردده المسؤولون الايرانيون والروس بطريقة حوّلت عبارة “احترام خيار السوريين لرئيسهم” الى عبارة ترمز الى التمسك فعليا ببقاء الأسد.
وكما الروس والايرانيين، يستخف غولد بذكاء المستمعين اليه. فأن تقول اسرائيل ان شؤون سوريا الداخلية لا تعنيها، وانها تحترم رأي السوريين في اختيار رئيسهم، فيما المقاتلات الاسرائيلية، مثل نظيرتها الروسية، لا تنفك توجه ضربة داخل سوريا هنا وضربة هناك، هو قول حق يراد به باطل، اذ من الواضح جدا ان اسرائيل معنية جدا بتطورات الاحداث في سوريا، وانها تتابعها بأدق تفاصيلها، وعن كثب، وتعرف من يقود اي سيارة ومن يخزن اي سلاح، وأين، ثم تقوم مقاتلاتها بضربة هنا او قتل هناك.
الامر الثاني الذي تحدث عنه غولد، وأربك مستمعيه، كان قوله ان اسرائيل تعتبر ان “تشييع سوريا” أمر يطال أمنها القومي، وانها لن تسمح بحدوثه. غالبية الحاضرين لم يفهموا مغزى تصريح غولد، اذ ما الذي يعني الاسرائيليين في هوية مذهب غالبية السوريين، وهل فعليا يفضل الاسرائيليون ان تكون غالبية الشعب السوري على المذهب الحنفي او الشافعي، مثلا، بدلا من الجعفري؟
بيد ان العارفين في لغة الترميز الديبلوماسية يعلمون ان “تشييع سوريا” هي رمز يلجأ اليه المسؤولون الاسرائيليون عند حديثهم عن من يمسك الارض عسكريا في هضبة الجولان السورية التي تحتلها اسرائيل منذ العام ١٩٦٧. فمنذ العام ١٩٧٤ واتفاقية الهدنة التي أفضت الى نشر قوة اندوف لحفط السلام التابعة للأمم المتحدة، حافظ حكام دمشق من آل الأسد على هدوء جبهة الجولان واستقرار الحدود الاسرائيلية بشكل لا سابق له.
ومع اندلاع الثورة السورية في العام ٢٠١١، وتقلص امكانيات الأسد، وانكفاء قواته، ووقوع بعض مناطق الجنوب السوري المحاذي للجولان في قبضة الثوار، سارعت اسرائيل للحفاظ على ميزان القوى في الجولان على ما كان عليه في زمن الأسد، فاتصلت بالمجموعات السكانية السورية القريبة من الجولان، وسلحت بعضها، وفتحت لهم الانترنت (مع ما يعني ذلك من تجسس وتنصت عليهم)، وسمحت لجرحى الثوار بالعلاج في مستشفياتها (مع ما يمنحها ذلك من مقدرة على استنطاقهم وتحديد هوياتهم ورسم علاقاتهم ببعضهم البعض).
لكن ايران كان لها رأي آخر، وحاولت الاستيلاء على المناطق السورية المحاذية للجولان التي إنحسرت سيطرة الأسد عنها، فأغضب ذلك اسرائيل، وراحت تصطاد السلاح والقادة التابعين لإيران و”حزب الله” حتى لا تمنحهما تمدداً حدودياً معها يضاف الى الجنوب اللبناني.
لذلك وقف غولد في ضيافة الايرانيين، وأعلن قبول بقاء الأسد، في دمشق، ورفض توسع ايران الى الجولان. “دمشق لكم والجولان لنا”، كانت الرسالة الاسرائيلية المرمزة التي أرسلها غولد الى طهران.