اصلاحات عراقية فاسدة
الاصلاحات التي أعلنها رئيس حكومة العراق حيدر العبادي، ونال عليها موافقة مجلس النواب بالاجماع، لم تكن اكثر من خطوات شعبوية حاولت امتصاص نقمة المتظاهرين المستائين من الحرّ، فيما تبدو اي معالجة جذرية للأزمة العراقية المستفحلة خارجة عن قدرة العبادي او قدرة غيره من العراقيين، الا اذا اعتقدنا ان تخبط العراق سببه ثلاثة نواب لرئيس الجمهورية وثلاثة نواب لرئيس الحكومة، كلهم عديمي الصلاحيات، وان الهدر المالي الحكومي يمكن وقفه بتعليق رواتب هؤلاء الستة ورواتب عناصر أمنية لا يتجاوز عددهم الالفين في أكثر تقدير.
اما الدليل الابرز على ان العبادي لا يفقه فلسفة الحكم ولا يعي جوهر الدولة والمؤسسات التي تقوم عليها، فيتمثل في تصوير الاعلام الرسمي العراقي للخطوات الحكومية على انها جاءت بعد حوار بين رئيسها والمرجعية الشيعية في النجف، وهو ما حدا برجل الدين والنائب السابق اياد جمال الدين الى توجيه رسالة للعبادي ذكّره فيها ان مصدر السلطات في العراق هو الشعب، لا المرجعية.
وعلّق جمال الدين على انتشار صور مرشديّ الثورة الايرانية، الراحل روح الله الخميني والحالي علي خامنئي، متسائلا لما لا تشمل الاصلاحات "إنزال صور الزعماء الإيرانيين من الشوارع" العراقية. وختم بالقول ان "القضاء العراقي فاسد"، وان "الفاسد لا يمكن ان يكون اداة للاصلاح".
لا شك ان ورقة العبادي الاصلاحية تؤكد انعدام اهليته لقيادة الاصلاح، بل انها تشي ان عملية الغاء المناصب كانت عملية كيدية موجهة ضد سلفه نوري المالكي اكثر منها محاولة للحد من الانفاق العام، اذ ان موازنات بعض الوزارات العراقية عصية على المراقبة، حتى لو اراد العبادي ذلك.
ابرز الوزارات العراقية التي يستحيل ضبط انفاقها هي وزارة الداخلية، ذات الموازنة السنوية البالغة ٤ مليارات دولار، فهذه الوزارة التي يترأسها محمد الغبان، وهو من قوات بدر الأكثر قربا الى فيلق القدس في الحرس الثوري الايراني ورئيسه الجنرال قاسم سليماني، تسدد مرتبات مقاتلي الميليشيات المعروفة بالحشد الشعبي.
وبالنظر الى ميليشيات الحشد مؤسساتيا، بعيدا عن عقيدتها وتأييدها للفقيه الشيعي الايراني وولايته، يظهر انه من شبه المستحيل مراقبة العدد الفعلي لمقاتلي الميليشيات والتأكد من حضورها المعارك ومشاركتها فيها، اذ ما الذي يمنع أمير اي ميليشيا ادراج اسماء مقاتلين وهميين يتقاضى عنهم مرتباتهم فيثري هو ويثري الميليشيويين المحيطين به، على غرار جيوش المالكي الخيالية؟
اما الاسوأ من تواضع قدرات العبادي الاصلاحية فتكمن في ضعف اقتراحات النواب، الذين تم اختيارهم وانتخابهم أصلا بناء على حسابات طائفية وحزبية ضيقة. على سبيل المثال، من الاصلاحات التي اقترحها النواب اقالة اي نائب يتخلف عن حضور اكثر من ثلث عدد الجلسات في اية دورة تشريعية، وهذا اقتراح يتنافى مع الاعراف الديموقراطية، اذ لا يمكن اقالة اي شخص يختاره الشعب ممثلا له، الا في حالة صدور احكام قضائية ضده. اما عقاب النواب ممن لا يحضرون، فهي مهمة ناخبيهم الذين يمكنهم الاطاحة بهم في اقرب انتخابات ممكنة.
الاصلاح في العراق يبدأ بنشر مفاهيم الديموقراطية بين المواطنين، وشن حملات تشرح لهم حقوقهم وواجباتهم، وتبين لهم كيفية عمل مؤسسات الحكم ومبدأ الفصل بين السلطات، وتظهر لهم مدى القوة التي يتمتعون بها عند ادلائهم باصواتهم في الصناديق، وهي قوة يجب ان يستخدموها بحكمة وفي مصلحتهم، لا بعاطفة طائفية وكيدية مذهبية. ثم، بعد ان يتكون لدى العراقيين الحد الادنى من فهم الديموقراطية، تنتج الانتخابات مسؤولين يعون ماهية المؤسسات وكيفية عملها، ويتسابقون في حسن تسييرها وفي سن تشريعات وتصديق سياسات من شأنها ان تنعكس ايجابا على العراق والعراقيين.
اما ورقة اصلاحية موجزة فيها عناوين فارغة، وكيدية تجاه السياسيين المنافسين، وتلاعب بالعواطف الدينية بربط السياسة بالمرجعية في النجف، فكل هذه الخطوات هي خطوات مشابهة للخطوات الماضية التي دفعت العراق باتجاه الحفرة التي يعيش فيها منذ اكثر من عقد، والتي يبدو انه باق فيها على الرغم من التفاؤل غير المبرر الذي شاب العراق وفتح شهية العراقيين، من العامة والنخبة المثقفة، تجاه اصلاحات مازالت تبدو مستحيلة.