دي ميستورا الذي سبقه الزمن
يوم وافقت موسكو على "اتفاقية جنيف ١"، كان "الربيع العربي" مايزال فتيا يهز عروش الجمهوريات العربية الوراثية، وكانت واشنطن أيدت الاطاحة برئيسين عربيين في مصر وليبيا، واعلنت ان شرعية الرئيس السوري بشار الأسد سقطت.
ويروي الديبلوماسيون الأميركيون المتقاعدون ممن شاركوا في صناعة "جنيف ١" انهم فوجئوا عندما وافقت روسيا على حل سياسي في سوريا يفرض "مرحلة انتقالية". الاميركيون اعتبروا ان "انتقالية" تعني الانتقال من حكم الأسد الى حكم بديل، واعتقدوا ان موافقة موسكو هي بمثابة تخلٍ عن خطاب روسيا السابق، الذي كان يدعم بشراسة مقولة دعم "السيادة السورية" في "مواجهة الارهاب".
ويبدو ان الوفد الروسي في جنيف اعتقد كذلك انه حقق انتصارا، فالمفاوضات الانتقالية تعني حكما مفاوضات مع الأسد ونظامه، اي ان "اتفاقية جنيف ١" اعادت بعض الشرعية للرئيس السوري، واجبرت واشنطن على الاعتراف بحوار معه، وان كان حوارا محصورا بالعملية الانتقالية.
في الأشهر التي تلت "جنيف ١"، تعثر "ربيع العرب" لأسباب عديدة. ومع انحسار الحماسة الثورية العربية، وتحول الثورة السورية الى نزاع مسلح، واظهار الأسد دموية غير مسبوقة سمحت له بالبقاء عسكريا، تراجعت واشنطن عن تأييدها لأي عملية تغييرية في العالم العربي، بل صارت تشارك في القضاء على أي بوادر تغيير.
كل هذه الاسباب جعلت موسكو تعتقد ان الظروف التي فرضت "جنيف ١" تغيرت، وانه لا بد من استبدال الاتفاقية المذكورة باتفاقية جديدة تضع الأسد في موقف دولي وديبلوماسي افضل.
وكان لروسيا ما ارادته، بل أن الأميركيين اعتقدوا ان عليهم مكافأة الروس لمساندة موسكو قرار مجلس الأمن الذي فرض نزع ترسانة الأسد الكيمياوية، فصارت واشنطن تتصرف وكأنها عهدت الى موسكو الاشراف على محادثات سورية سلمية تؤدي الى انهاء العنف، فكان "مؤتمر جنيف ٢".
لكن "الائتلاف السوري لقوى الثورة والمعارضة"، وبدعم من عواصم عربية وانقرة، اظهر حنكة سياسية بتمسكه بـ "اتفاقية جنيف ١"، اذ عندما حاولت عواصم عربية اخرى وواشنطن فرض مشاركة قوى معارضة اخرى تعيش برعاية الأسد وفي كنفه، اصر الائتلاف على رفع "جنيف ١" كأساس لأي تحالف معارض موسع، وعندما ذهب الائتلاف الى "مؤتمر جنيف ٢"، رفع "جنيف ١" اساسا لأي حل على الرغم من اصرار الاميركيين على استبدال "جنيف ١" بوثيقة احدث "على ذوق" الروس.
والظريف ان "جنيف ٢" لم يكن فعليا "الجزء الثاني"، اذ ان "جنيف ١" انعقد بغياب اي طرف سوري ووقعت على وثيقته أميركا وروسيا. وفي ما بعد، اراد المجتمع الدولي التخلص من "جنيف ١"، فعقد "جنيف ٢"، وكان ذلك مؤتمر الحوار الأول بين المعارضة والأسد، وأرادت الكتلة الدولية الحصول على توقيع المعارضين للتخلص من "جنيف ١"، لكن الأسد تصرف برعونة ووفر على المعارضة خوض معركة اسقاط "جنيف ٢" وحدها، فأدت مشاكسة وفد الأسد الى اضعاف مؤتمر كان مصمما لتحسين وضعه.
ثم انتقلت واشنطن من مشجعة لجهود موسكو للحوار السوري الى مشاركة في "لي ذراع" المعارضة السورية للقبول بالذهاب الى "حوار موسكو"، وهو حوار كما "جنيف ٢"، كان مصمما للقضاء على "جنيف ١" وتحسين وضع الأسد ديبلوماسيا. مرة اخرى، أدى تمسك الائتلاف والدول الداعمة له بـ "جنيف ١" بنسف ألاعيب روسيا واميركا والأمم المتحدة.
هكذا، قررت "الأمم المتحدة"، بايعاز من اميركا وروسيا، ان تعلن نيتها التخلص علانية من "جنيف ١". ذهب مبعوث السلام ستيفان دي ميستورا الى جنيف، وأعلن عقد مؤتمر تسوية يفرض فيه ما فشل العالم في فرضه في "جنيف ٢". تمت دعوة الاطراف المعارضة المحسوبة على الأسد، وتمت دعوت ايران التي نسف الائتلاف حضورها "جنيف ٢"، وتم اعتماد اسلوب "حوار موسكو"، اي عقد حوارات غير رسمية هي بمثابة دردشة من دون ان تجمع وفدي الائتلاف والأسد وجها لوجه.
وكما في "حوار موسكو"، سيسعى دي ميستورا الى الخروج ببيان يعتبره "جنيف ٣"، ويعتبر ان المعارضة وافقت عليه وأنه يحل محل "جنيف ١"، وهي الاتفاقية التي أعلن المبعوث الدولي صراحة ان "الزمن قد سبقها" مع ظهور تنظيم "الدولة الاسلامية"، منذ الموافقة عليها.
كما نسف الائتلاف "جنيف ٢" و"حوار موسكو"، سيستمر بتمسكه بـ "جنيف ١"، وسيخرج دي ميستورا بالبيان الذي يريده.