"اختلاط" في الجامعة
كانت المتصلة الهاتفية بالبرنامج المسائي، شابة من القاهرة، لكنها في شكواها الغاضبة، بدت كما لو كانت فلاحاً خرج من قريته للتو إلى العاصمة، فهالَه شكل العلاقات فيها، خصوصاً بين الجنسين، فعاد غاضباً وشاكياً، بل ومبالِغاً في وصف ما شاهده كي يثير غضب مستمعيه، ويداعب فكرتهم المسبقة عن "انحلال المدينة".
كانت الشابة ابنة العاصمة، تصف شكل علاقات الطلاب والطالبات في الجامعات المصرية، فبلغ منها الغضب أن وصفتها بأن "البنات بتقعد على حجر الأولاد"، ما يفرض على الآخرين رؤية "منظر ما يحبوش يشوفوه". وكانت المتصلة، تؤازر باتصالها مدوّناً شاباً يجلس كضيف في الاستديو، ويدير إحدى الصفحات باسم مدينة الاسكندرية في "فايسبوك"، وقد نشر صورة لطلاب وطالبات في "حالة حب"، بوصفها دليلاً على الانحلال الأخلاقي، ومهدداً الطلاب وذويهم بنشر الصورة مجدداً بوجوه واضحة، بعدما كان عتّم الوجوه في النشر الأول.
الصورة المعنية، لا تكشف أكثر من شارع جامعي هادئ، يجلس فيه الطلاب والطالبات "اثنين، اثنين"، كما لو على "الكورنيِش". الطالبات، كلهن بلا استثناء، محجبات، ولا يبدو في الصورة شيئاً غير عادي إلا لو عُدّ الحب كذلك، لكنها أُثارت غضب مدير الصفحة التي يبلغ عدد أعضائها حوالى المليون، فأصرّ على القتال ضد هذه "الخطيئة التي تواجه مجتمعنا الشرقي العربي المسلم".
اعتادت الدراما المصرية، حتى وقت قريب، على تقديم الفلاحة التي تخشى على حبيبها من "بنات مصر" (تسمى القاهرة "مصر" بين أهالي الأقاليم)، كما اعتاد ابن الريف النمطي في الدراما أن يبدي امتعاضه الساذج من "ناس مصر"، كما في صرخة محمد صبحي الشهيرة "مالكوا يا ناس مصر" في مسلسله "رحلة المليون" على لسان شخصية "سنبل"، الفلاح النازح إلى المدينة ليواجه صعابها قبل أن يصبح أحد أثريائها.
بُثّ المسلسل وحقق نجاحه الهائل منتصف ثمانينات القرن العشرن، لكن بالتوازي معه، ازدادت حركة نزوح ريفية هائلة، واقعية لا درامية هذه المرة، من "الأرياف" إلى المدن. ونشأت في القاهرة مئات المناطق العشوائية التي استقبلت النازحين أو أسسوها هم، وتضخمت العشوائيات لتصنع مزيجاً خاصاً وخطراً من ثقافة الريف التقليدية، وعنف المدينة. وقد عبّرت عن هذا المزيج، "خير" تعبير، أفكار السلفية الدينية السياسية، التي استخدمت تقاليد الريف سلاحاً إيديولوجياً اخترقت به شوارع المدينة، بمزيج من شعارات "الصحوة" و"العودة إلى الله". وقد نجحت، إلى حد كبير، في صنع الغطاء الفكري للتحول الطوبوغرافي الذي أسهم فيه الانفجار السكاني، لتتحول المدن المصرية، في النهاية، بتراث قرنين من التحديث، إلى قرى كبيرة، ترى في مجرد جلوس طالب وطالبة جامعيين، خطيئة وعاراً وقضية تناقش في التلفزيون.
لكن الانتصار الريفي الأهم، كان في عنوان الحلقة التلفزيونية نفسها في قناة "المحور"، والتي حملت عنوان "الاختلاط في الجامعات المصرية". فـ"الاختلاط" لفظ إسلاموي حصراً، وجرى تخريجه فقهياً بمعنى "وجود رجال ونساء بلا محرم معهما". وقد جرى استخدام اللفظ لمحاربة شأن "مديني" طبيعي، وهو وجود المواطنين، رجالاً ونساء في المجال العام. أما الدولة المدنية، حين تستخدم لفظاً يشير إلى تواجد النوعين كما في بعض المدارس، فإنها تستخدم لفظ مدرسة "مشتركة" لا مختلطة. لكن البرنامج التلفزيوني، خسر معركة الحياد، فضلاً عن موقف المدنية، باستخدام "الاختلاط" في العنوان، كمن يود تقديم حلقة عن الموسيقى، فيسميها حلقة مزامير الشيطان.