مدينة من أرق
في قصته "لغة الأي أي"، يكتب يوسف إدريس عن خمسيني فقير، لا يكفّ عن الأنين والصراخ. هذا المريض الإدريسي صار يخطر ببالي كثيراً في ليالي الأرق. بالأحرى أنينه المتخيّل هو ما يظلّ يتردّد في رأسي، كأنه حقيقة حاضرة، بينما أرهف السمع إلى المدينة بالخارج. أنصت إلى أصوات ليلها، تلك التي لم تعد تصلني خافتة كما اعتدتها قبلاً. صار الصوت الصاخب للألعاب النارية رفيقاً ليلياً، يُذكِّر بزخات رصاص تنهمر في أماكن أخرى، بأصوات صراخ متقطع لمعتقل يُعذَّب في قسم شرطة، لطفل لا يتوقف عن البكاء، لعجوز يستدعي ذلك الرجل المتوجّع في قصة إدريس.
يُخيل إليّ أن القاهرة نفسها هي ذلك المريض، وأنها ستواصل أنينها كبطل تراجيدي محكوم بقدره. فتلك المدينة التي لا تنام، تلك الساهرة التي تصل الليل بالنهار لا تكفّ عن تكرار نفسها وبثّ شكواها ووجعها. لكن ساهرة لا تبدو مفردة مناسبة. هذا ليس سهراً، الأرق أكثر دقّة مع كل هذا الترقب والعنف المراوغ الذي تنفثه المدينة.
مدينة الحالمين والقتلة، المنتفضين والغارقين في "نعيم" غفلتهم، يناسبها أن ترعى تعبها على مدار اليوم، غير آبهة بما يجري خارجها. تقتل النوم، وتقهر نفسها قبل الآخرين. تتابع أفضل أبنائها وهم يتحوّلون إلى جثث ملقاة على الطرق السريعة، أو في أكوام القمامة، أو على أطراف الصحراء، وقد فاضت أرواحهم بعد تعذيب أنهك الأجساد، وحوّلها إلى حطام. يصلها تأوّههم الأخير فتلتفت صوب الجهة الأخرى، متظاهرةً بالتحديق في ماضٍ اعتادت أن تتباهى به.
تغلق المدينة أذنيها، فيتعملق الأنين أكثر ويتردّد صداه في كل ركن، تاركاً لأهلها الاستغراق في فرز الأصوات، والتفرقة بينها. هذا صوت الألعاب النارية المعتادة، وذاك رصاص في الهواء، أما ذلك فانفجار سيقول المتحدّث العسكري إنه ناجم عن إجراء روتيني للتخلّص من ذخيرة منتهية الصلاحية! وهو يختلف بطبيعة الحال عن تلك الضجّة المرعبة التي حطّمت زجاج النوافذ وأيقظت الأطفال مذعورين ذات صباح، وبرّرها المتحدث نفسه بطائرة حربية كسرت حاجز الصوت خلال تدريبات عسكرية، طالباً من المواطنين "عدم الانزعاج من هذه الإجراءات"، كأنما يقول لهم: "ستعيشون طويلاً مع هكذا انفجارات لا تعرفون مصدرها"!
أتذكر أنه قرب نهاية العام الأول من عمر الثورة، وأثناء إحدى المواجهات المحتدمة بين الثوّار والعسكر، أخبرني صديق كان في زيارة للقاهرة أنه، من فندقه القريب من ميدان التحرير، يستطيع بسهولة تمييز أصوات الرصاص عن بعضها البعض، بل يستطيع معرفة أي طلقة أصابت هدفها وأيها طاشت في الهواء. وحين لاحظ دهشتي ذكر متباهياً أنه، كصحافي، غطى حروباً أهلية ونزاعات تمتدّ من أفريقيا إلى أمريكا اللاتينية. الآن صرت أتدرب بدوري على تصنيف الأصوات التي تصلني محاولةً فصل قرقعة الألعاب النارية عن غيرها من انفجارات محتملة.
بفعل الاعتياد باتت جميعها كموسيقى تصويرية تؤطّر تفاصيل الحياة. وحده صوت الأنين يلاحقني في ليل القاهرة، دون أن أقدر على التآلف معه أو ترويضه. تغيب عني الملامح المفترضة لبطل يوسف إدريس الذي حوَّل التأوه إلى لغة بديلة، ويحضرني محمد الجندي وقد غيّر التعذيب الوحشي معالم جسده ووجهه، مصحوباً بصوت الطفل عمر صلاح، بائع البطاطا، وهو يردّد جملته الأشبه بلطمة على وجوهنا جميعاً: "تعبت من الشغلانة دي وعاوز أغيّرها". فيتلقّى رصاصتين غادرتين من عسكري غير مكترث برنّة الوجع بين ثنايا الكلمات.
يُخيل إليّ أن القاهرة نفسها هي ذلك المريض، وأنها ستواصل أنينها كبطل تراجيدي محكوم بقدره. فتلك المدينة التي لا تنام، تلك الساهرة التي تصل الليل بالنهار لا تكفّ عن تكرار نفسها وبثّ شكواها ووجعها. لكن ساهرة لا تبدو مفردة مناسبة. هذا ليس سهراً، الأرق أكثر دقّة مع كل هذا الترقب والعنف المراوغ الذي تنفثه المدينة.
مدينة الحالمين والقتلة، المنتفضين والغارقين في "نعيم" غفلتهم، يناسبها أن ترعى تعبها على مدار اليوم، غير آبهة بما يجري خارجها. تقتل النوم، وتقهر نفسها قبل الآخرين. تتابع أفضل أبنائها وهم يتحوّلون إلى جثث ملقاة على الطرق السريعة، أو في أكوام القمامة، أو على أطراف الصحراء، وقد فاضت أرواحهم بعد تعذيب أنهك الأجساد، وحوّلها إلى حطام. يصلها تأوّههم الأخير فتلتفت صوب الجهة الأخرى، متظاهرةً بالتحديق في ماضٍ اعتادت أن تتباهى به.
تغلق المدينة أذنيها، فيتعملق الأنين أكثر ويتردّد صداه في كل ركن، تاركاً لأهلها الاستغراق في فرز الأصوات، والتفرقة بينها. هذا صوت الألعاب النارية المعتادة، وذاك رصاص في الهواء، أما ذلك فانفجار سيقول المتحدّث العسكري إنه ناجم عن إجراء روتيني للتخلّص من ذخيرة منتهية الصلاحية! وهو يختلف بطبيعة الحال عن تلك الضجّة المرعبة التي حطّمت زجاج النوافذ وأيقظت الأطفال مذعورين ذات صباح، وبرّرها المتحدث نفسه بطائرة حربية كسرت حاجز الصوت خلال تدريبات عسكرية، طالباً من المواطنين "عدم الانزعاج من هذه الإجراءات"، كأنما يقول لهم: "ستعيشون طويلاً مع هكذا انفجارات لا تعرفون مصدرها"!
أتذكر أنه قرب نهاية العام الأول من عمر الثورة، وأثناء إحدى المواجهات المحتدمة بين الثوّار والعسكر، أخبرني صديق كان في زيارة للقاهرة أنه، من فندقه القريب من ميدان التحرير، يستطيع بسهولة تمييز أصوات الرصاص عن بعضها البعض، بل يستطيع معرفة أي طلقة أصابت هدفها وأيها طاشت في الهواء. وحين لاحظ دهشتي ذكر متباهياً أنه، كصحافي، غطى حروباً أهلية ونزاعات تمتدّ من أفريقيا إلى أمريكا اللاتينية. الآن صرت أتدرب بدوري على تصنيف الأصوات التي تصلني محاولةً فصل قرقعة الألعاب النارية عن غيرها من انفجارات محتملة.
بفعل الاعتياد باتت جميعها كموسيقى تصويرية تؤطّر تفاصيل الحياة. وحده صوت الأنين يلاحقني في ليل القاهرة، دون أن أقدر على التآلف معه أو ترويضه. تغيب عني الملامح المفترضة لبطل يوسف إدريس الذي حوَّل التأوه إلى لغة بديلة، ويحضرني محمد الجندي وقد غيّر التعذيب الوحشي معالم جسده ووجهه، مصحوباً بصوت الطفل عمر صلاح، بائع البطاطا، وهو يردّد جملته الأشبه بلطمة على وجوهنا جميعاً: "تعبت من الشغلانة دي وعاوز أغيّرها". فيتلقّى رصاصتين غادرتين من عسكري غير مكترث برنّة الوجع بين ثنايا الكلمات.