كيف نجري مقابلات صحافية مع أهلنا؟

صفاء عيّاد
الجمعة   2024/10/25
"هجرة/تهجير" للفنان اللبناني حسن جوني، 1981
لم يدرّسنا أحد في كليات الإعلام، معنى أن نُجري مقابلة صحافية مع أهلنا وجيراننا أو ناسنا؟ لطالما كان الحدث بالمفهوم الإعلامي بعيداً منا ولا يمسّنا!

أذكر حواراً دار بين  أستاذي الجامعي، وكان أيضاً مراسلاً ميدانياً، وبين إحدى زميلاتي في الجامعة، وهي التي درجت على حضور المحاضرة أو الصف التدريبي في تمام الثامنة صباحاً، وكأنها ذاهبة إلى سهرة. فسألها: "ماذا ترتدين حينما تقصدين مخيماً للاجئين لتُجري معهم مقابلات؟". علا صوت الضحك والإستهزاء. وأجاب الأستاذ على سؤاله: "في الدرجة الأولى عليك  أن تتعلمي الجلوس معهم على الأرض، وألا تمزجي كلامك بلغة أجنبية غير لغتهم، وعليكِ أن تخففي من الميكاج على وجهك والذهب الذي تتزينين به، وربما تضطرين إلى تناول الطعام الذي يعدونه، وغيرها من الأمور. أما التغطية الصحافية في المقرات الرسمية، فتتطلب لباساً رسمياً..."

أستعيد الحوار، ليس إستهزاءً بزميلة الدراسة، بل علّني أجد في طيّات الذاكرة أن أستاذي ذكَر شيئاً بخصوص سؤال يؤرقني: كيف نجري مقابلة مع أهلنا وجيراننا في ظروف الحرب والتهجير؟

هذا السؤال كان حاضراً في ذهني، عندما زرتت مراكز الإيواء في المناطق الآمنة في لبنان. حينذاك، لم أجرؤ على البدء بالأسئلة قبل تقديم الإعتذار من ضيوف المدارس والمساجد، والبيوت التي تعج بأكثر من عائلة، ثم أسألهم إن كانت أسئلتي ستزعجهم، وأشرح لهم دورنا كصحافيين..

قد يشفع لي أني ابنة الجنوب. أو أقله، أعزّي نفسي بأني أنا أيضاً قلقة بسبب نزوح عائلتي، والخوف المتزايد على والدي الذي ما زال في قريتنا الجنوبية يقوم بعمله في بناء البيوت ويستعد لقطف محصول الزيتون. يرسل لي صوره ممازحاً: "اكتبي كيف بعدنا عم نعمرّ بالجنوب والقصف حدنا"! كل هذه الصور والقلق والصمود، ربما تمكنني من نقل واقع النازحين، بلا بهارات إعلامية، أو سقطة أخلاقية إعلامية، أو عدم احترام لخصوصيتهم.

أمازح مَن أقابلهم بأني أيضاً نازحة في بيت يضم عائلات عديدة، فالحال واحدة، رغم صعوبة أن تشبيه الظروف التي أعيشها مبظروفهم. هم "أهلنا". هو التوصيف المثالي للواقع الذي شاهدته، وإن رآه البعض تحيزاً أو عملاً صحافياً غير موضوعي.

يبادر "أهلنا" في مراكز الإيواء دوماً إلى سؤال الصحافيين: "إنتو من وين؟". وحين أذكر اسم قريتي  لإحدى لسيدة عجوز، تقول لي: "جارتي!"، وتردف بلهجة جنوبية: "البركة والسبعة أنعام". لكن ما معنى أن أسأل جارتي عن أحوالها ومعاناتها وخوفها وهروبها من القصف؟ أو عن قلقها على مَن بقي مِن عائلتها بين النيران؟

وكيف يمكنني طرح المزيد من الأسئلة، فيما تحاول سيدة أخرى أن تجلب لي كرسياً لأستريح؟ وكيف يمكنني سؤال رجل سبعيني، يبكي لأنه لا يقوى على استرجاع مشهد قصف المباني في الضاحية أمام عينيه؟ هل أخون دموع العم السبيعني، إن قلت عنها "إنكساراً" وأتبعتها بجملة شهيرة "الناس ما عادوا يحتملون"؟ فكل من قابلتهم، ما زالوا يتحملون، يحاولون التأقلم، ويحاولون الحفاظ على عاداتهم وتقاليدهم من الترحاب والضيافة، بأبسط الأمور، وأقل الإيمان!

في غزة، على امتداد عام، علّمنا صحافيوها جانباً جديداً من المهنة. لا سيما مع صورة شهيرة من إحدى مستشفيات غزة، حين قام صحافي بحمل كاميرته على كتفٍ لنقل المشهد الدموي والأحداث الجارية، وعلى كتفه الآخر حمل طفلاً غزاوياً لمحاولة تهدئة بكائه، فشغلت هذه الصورة العالم بأسره. لقد تعلّمنا منهم كيف تكون المهنة "كتفاً للإنسانية وكتف للمهمة"، فغزة  أعادت رسم مفهوم الصحافة، في عيوننا، مع أشياء أخرى كثيرة!