حارسات الهيكل الأبوي
حارسات الهيكل هنّ الساهرات على تمتين الهيكل الأبوي، وتعميق مفهوم سيطرة إنسان على آخر.
الهيكل الأبوي هو هيكل اجتماعي يضمن التعامل مع مجموعةٍ على أساس غير متساوٍ وغير ندّيّ، كعلاقة الطفل بأبيه.
بتعريف فرجينيا وولف، الأبوية هي سيطرة الذكور على الإناث في المجتمع. هي التمييز بحقّهن، أو الاستخفاف بهن، أو إهانتهن، أو السيطرة عليهن، أو استغلالهن، أو ممارسة العنف بحقّهن. لكن تلك السيطرة لا تقتصر على الذكور، بل تتعدّاها لتشمل إناثاً يُطلق عليهنّ لقب حارسات هيكل الأبوية.
حارسات الهيكل ذقن طعم الأبوية بأشكالها المتعدّدة أعلاه، فكان ردّ فعلهن تمجيد السلطة وتكرار الأذى الذي تعرّضن له. هنّ بطلات هذه القصص القصيرة الثلاث، وغيرهنّ كثيراتٌ كثيرات...
الحارسة رقم 1
سيّدةٌ أهانها مديرها مراراً وتكراراً. تابع قفاها وثدييها باهتمامٍ، كما درج على الفعل مع كلّ امرأةٍ يراها، ولمّا حان وقت العمل، صرخ في وجهها مرة واثنتين وثلاثاً، وتعمّد أن تدرك قيمتها كي لا تزداد ثقتها بنفسها أكثر مما ينبغي. ثمّ راح يتحدّث بعد كأسٍ أو اثنتين ربما، كم يحبّها وكم يهتمّ لأمرها. أراد لعودها أن يصلب، فاستخدم الصراخ والإهانة. عاملها كإبنةٍ له، قال لها، واضطرّت إلى التصديق حفاظاً على بعض ماء الوجه، في المرآة على الأقلّ. وفي داخلها كانت تعلم أن الإهانة اكتملت حين تابع قفاها واستهتر بعملها في الآن نفسه، لكنها لم تستطع التغيير.
ثم مرّت سنوات، وتسلمت منصباً إدارياً، وراحت تصرخ في وجه مرؤوستها. أريد لعودِكِ أن يصلب، قالت لها، كي تَصِلي إلى الأعالي كما وصلتُ أنا، بفضل مديري وصراخه.
شكراً، ردّت عليها المرؤوسة، ثقتي في نفسي ليست بحاجةٍ للإهانة كي تُصقل، لذا أرجوك أن تعفيني… كما أن صورة الأب في ذهني هي لأبٍ مُحبّ غير عاقّ، أضافت المرؤوسةُ المحظوظةُ "في عبّها".
الحارسة رقم 2
امرأةٌ تربّت بين أمّ طبيبة وأبٍ لم يُتِمَّ تعليمه، ورغم ذلك كان الجميع ينادون الوالد "دكتور"، في المطعم، والشارع، والمقهى، فيردّ الأب شبه الأمّي فخوراً بنفسه. في المنزل، كان الأب يهين الدكتورة وابنتها، إلى حدّ الأذى، ليعوّض عن معرفته بأميّته، وليشفي غليله من خاطرٍ قد يمرّ في ذهن زوجته بأنها أفضل منه، ليس علمياً فقط بل إنسانياً أيضاً. كان تعامُل الأب مختلفاً مع أبنائه الذكور طبعاً.
المهم، كبرت تلك الابنة برغبةٍ عارمةٍ في أن تصبح هي "الدكتورة"، ليس بالمعنى العلمي، بل الاجتماعي. أرادت أن تحتلّ موقع سلطة، لكن الشهادة العليا لم تكن في متناولها، فاستخدمت أساليب والدها من تحايلٍ وكذبٍ وتظاهرٍ بما ليست عليه، بل و"مَسكَنَة" حين لزم الأمر، إلى أن وصلت إلى مركزٍ أرادَته. وبانعطافةٍ متوقّعةٍ في الأحداث، بدأت تبطش بمجرّد تسلمها المركز، مع الحرص على أن تبكي أمام أصحاب السلطة الفعلية كلّما سنحت لها فرصة مناسبة، لإقناعهم بقلّة حيلتها. لم تنفذ بجلدها طويلاً، ذلك أن صاحب القرار الذي تملّقت له، قرّر ذات يومٍ طردها، وحين وجدت عملاً آخر ازدادت حقداً وبطشاً بدلاً من أن تتعلّم.
الحارسة رقم 3
أمٌّ لم يثمّن زوجها كبرياءها بأكثر من حفنةٍ كبيرةٍ من الدولارات. كلّ يومٍ كانت الأمّ تزداد غضباً: خياناتٌ متتالية، استخفافٌ مستمرّ بعقلها أمام العائلة بمن في ذلك الخدَم، وسلطةٌ مرتبطةٌ بأموالٍ لا تنضب. صارت الأم "تفشّ خلقها" بإنفاق الأموال، وبالصراخ كيفما اتفق، فتسلّل الخجل إلى قلب الابنة من أمّ لم تصمد طويلاً، وتسلّل معه احترامٌ شديدٌ للسلطة التي من دونها قد تُمسخ المرأة.
هكذا ضاعت الحدود بين السلطة والاحترام في ذهن الابنة، وسيطر عليها رعبٌ من فقدان محتملٍ لكبريائها (ولعقلها) في أيّ لحظة. اعتنقت الابنة ممارسات أبيها، وصارت تستخفّ هي أيضاً بعقل أمّها، لترسم مسافةً واضحةً تُبعدها عنها فلا تساور لأحد نفسه بأن يشبّهها بها. فازدادت الأم غضباً وأعصابها انفراطاً.
تابعت الأمّ أعمالها التي دفع الأب تكاليف إنشائها، وهناك كانت تنهال على مساعدتها كلّ صباحٍ بكمّ هائل من الإهانات. أما الابنة، فانخرطت في أعمال أبيها، وحرصت على أن تستلم منه على الأقلّ قطعةً من مفتاح الهيكل.
اغتراب موضوعيّ
حارسات هيكل الأبوية نساءٌ لا يعلمن بالضرورة مدى تورّطهن. هو نوعٌ من الاغتراب الموضوعي، ذاك الذي يصيب المرء من دون أن يعي بالضرورة وجوده، فيتماهى معه ويتعلّم كيف يستلّ منه شعوراً بالرضى. هو سياسة دفاعية ينتهجها الدماغ بهدف الاستمرار، فيحدث التماهي. وعند هذا الحدّ تكون المرأة قد تمادت في اغترابها عن طبيعتها الأساسية، لتصبح حارسةً للهيكل الأبوي، الذي يغدو بدوره جزءاً موضوعياً من تفكيرها بل من وجودها المغترب أساساً.
وهنا يكمن سمّ نظام السيطرة كلّه: في قدرته على التوالد والتسرّب إلى خلايا الجسم والدماغ، بشكلٍ موضوعيّ تماماً، فلا تشعر المرأة بأيّ حاجةٍ إلى التغيير، وتعيد إنتاج النظام نفسه بكلّ ثقة، فتسيء بالتالي إلى نضالات نساء لم يرضخن لسحق حقوقهن وَواجَهنَ بإيمان شرسٍ بأحقية قضيّتهن.
طبعاً، لا تمثّل هذه القصص الثلاث سوى عيّنة صغيرة للغاية من مجتمع البحث، أي حارسات الهيكل بمختلف أنواعهنّ وتجاربهنّ وانعكاسات تصرّفاتهنّ، التي تتعدّى ميادين العمل لتشمل الأسرة والتربية وكافة أشكال الحياة الاجتماعية أيضاً.
كما أن اعتبار كلِّ تصرّفٍ يصدر عن امرأةٍ في مجال العمل، بمثابة حراسةٍ للهيكل الأبوي، ليس أمراً متّزناً بالضرورة. فثمة أسباب كثيرة قد تدفع بسيّدةٍ نحو تصرّفٍ أو آخر، حتى إن كان تصرّفها مسيئاً بحقّ غيرها. حارسات الهيكل عادةً ما يعلنّ عن أنفسهنّ جهارةً، تقديراً للسلطة التي حقّقنها، من دون وعيهن بالضرورة لخطورة الدور الذي يؤدّينه.
تجدر في النهاية الإشارة إلى أن قاموس المعاني يضيف إلى تعريف الأبوية، ما يلفت إلى أن نظرةَ المفعول به، إلى النظام الفاعل، هي التي تحدّد ما إذا كان سيعتبره سلبياً أم لا. ويسرد قاموس المعاني مثالاً على ذلك: "لكن قد يشعر اليابانيون مثلاً شعوراً مختلفاً إزاء سياسة الأبوية من قبل حكّامهم". وعليه، باستطاعتنا سحب هذا المثال على سياق مقالنا هذا، لنقول بكلّ ثقةٍ "قد تشعر بعض النساء مثلاً شعوراً مختلفاً إزاء سياسة الأبوية من قبل الرجال في حياتهنّ".
في أيّ حالٍ من الأحوال، لا بدّ لنا من الالتفات أكثر إلى حارسات الهيكل، فهن يحتجن إلينا جميعاً كي يسترجعن أنفسهن إن كان ذلك ممكناً بَعد، كما أن علينا طمأنتهن، لأن الخروج عن مألوفهنّ ليس بالأمر الهيّن.
بتعريف فرجينيا وولف، الأبوية هي سيطرة الذكور على الإناث في المجتمع. هي التمييز بحقّهن، أو الاستخفاف بهن، أو إهانتهن، أو السيطرة عليهن، أو استغلالهن، أو ممارسة العنف بحقّهن. لكن تلك السيطرة لا تقتصر على الذكور، بل تتعدّاها لتشمل إناثاً يُطلق عليهنّ لقب حارسات هيكل الأبوية.
حارسات الهيكل ذقن طعم الأبوية بأشكالها المتعدّدة أعلاه، فكان ردّ فعلهن تمجيد السلطة وتكرار الأذى الذي تعرّضن له. هنّ بطلات هذه القصص القصيرة الثلاث، وغيرهنّ كثيراتٌ كثيرات...
الحارسة رقم 1
سيّدةٌ أهانها مديرها مراراً وتكراراً. تابع قفاها وثدييها باهتمامٍ، كما درج على الفعل مع كلّ امرأةٍ يراها، ولمّا حان وقت العمل، صرخ في وجهها مرة واثنتين وثلاثاً، وتعمّد أن تدرك قيمتها كي لا تزداد ثقتها بنفسها أكثر مما ينبغي. ثمّ راح يتحدّث بعد كأسٍ أو اثنتين ربما، كم يحبّها وكم يهتمّ لأمرها. أراد لعودها أن يصلب، فاستخدم الصراخ والإهانة. عاملها كإبنةٍ له، قال لها، واضطرّت إلى التصديق حفاظاً على بعض ماء الوجه، في المرآة على الأقلّ. وفي داخلها كانت تعلم أن الإهانة اكتملت حين تابع قفاها واستهتر بعملها في الآن نفسه، لكنها لم تستطع التغيير.
ثم مرّت سنوات، وتسلمت منصباً إدارياً، وراحت تصرخ في وجه مرؤوستها. أريد لعودِكِ أن يصلب، قالت لها، كي تَصِلي إلى الأعالي كما وصلتُ أنا، بفضل مديري وصراخه.
شكراً، ردّت عليها المرؤوسة، ثقتي في نفسي ليست بحاجةٍ للإهانة كي تُصقل، لذا أرجوك أن تعفيني… كما أن صورة الأب في ذهني هي لأبٍ مُحبّ غير عاقّ، أضافت المرؤوسةُ المحظوظةُ "في عبّها".
الحارسة رقم 2
امرأةٌ تربّت بين أمّ طبيبة وأبٍ لم يُتِمَّ تعليمه، ورغم ذلك كان الجميع ينادون الوالد "دكتور"، في المطعم، والشارع، والمقهى، فيردّ الأب شبه الأمّي فخوراً بنفسه. في المنزل، كان الأب يهين الدكتورة وابنتها، إلى حدّ الأذى، ليعوّض عن معرفته بأميّته، وليشفي غليله من خاطرٍ قد يمرّ في ذهن زوجته بأنها أفضل منه، ليس علمياً فقط بل إنسانياً أيضاً. كان تعامُل الأب مختلفاً مع أبنائه الذكور طبعاً.
المهم، كبرت تلك الابنة برغبةٍ عارمةٍ في أن تصبح هي "الدكتورة"، ليس بالمعنى العلمي، بل الاجتماعي. أرادت أن تحتلّ موقع سلطة، لكن الشهادة العليا لم تكن في متناولها، فاستخدمت أساليب والدها من تحايلٍ وكذبٍ وتظاهرٍ بما ليست عليه، بل و"مَسكَنَة" حين لزم الأمر، إلى أن وصلت إلى مركزٍ أرادَته. وبانعطافةٍ متوقّعةٍ في الأحداث، بدأت تبطش بمجرّد تسلمها المركز، مع الحرص على أن تبكي أمام أصحاب السلطة الفعلية كلّما سنحت لها فرصة مناسبة، لإقناعهم بقلّة حيلتها. لم تنفذ بجلدها طويلاً، ذلك أن صاحب القرار الذي تملّقت له، قرّر ذات يومٍ طردها، وحين وجدت عملاً آخر ازدادت حقداً وبطشاً بدلاً من أن تتعلّم.
الحارسة رقم 3
أمٌّ لم يثمّن زوجها كبرياءها بأكثر من حفنةٍ كبيرةٍ من الدولارات. كلّ يومٍ كانت الأمّ تزداد غضباً: خياناتٌ متتالية، استخفافٌ مستمرّ بعقلها أمام العائلة بمن في ذلك الخدَم، وسلطةٌ مرتبطةٌ بأموالٍ لا تنضب. صارت الأم "تفشّ خلقها" بإنفاق الأموال، وبالصراخ كيفما اتفق، فتسلّل الخجل إلى قلب الابنة من أمّ لم تصمد طويلاً، وتسلّل معه احترامٌ شديدٌ للسلطة التي من دونها قد تُمسخ المرأة.
هكذا ضاعت الحدود بين السلطة والاحترام في ذهن الابنة، وسيطر عليها رعبٌ من فقدان محتملٍ لكبريائها (ولعقلها) في أيّ لحظة. اعتنقت الابنة ممارسات أبيها، وصارت تستخفّ هي أيضاً بعقل أمّها، لترسم مسافةً واضحةً تُبعدها عنها فلا تساور لأحد نفسه بأن يشبّهها بها. فازدادت الأم غضباً وأعصابها انفراطاً.
تابعت الأمّ أعمالها التي دفع الأب تكاليف إنشائها، وهناك كانت تنهال على مساعدتها كلّ صباحٍ بكمّ هائل من الإهانات. أما الابنة، فانخرطت في أعمال أبيها، وحرصت على أن تستلم منه على الأقلّ قطعةً من مفتاح الهيكل.
اغتراب موضوعيّ
حارسات هيكل الأبوية نساءٌ لا يعلمن بالضرورة مدى تورّطهن. هو نوعٌ من الاغتراب الموضوعي، ذاك الذي يصيب المرء من دون أن يعي بالضرورة وجوده، فيتماهى معه ويتعلّم كيف يستلّ منه شعوراً بالرضى. هو سياسة دفاعية ينتهجها الدماغ بهدف الاستمرار، فيحدث التماهي. وعند هذا الحدّ تكون المرأة قد تمادت في اغترابها عن طبيعتها الأساسية، لتصبح حارسةً للهيكل الأبوي، الذي يغدو بدوره جزءاً موضوعياً من تفكيرها بل من وجودها المغترب أساساً.
وهنا يكمن سمّ نظام السيطرة كلّه: في قدرته على التوالد والتسرّب إلى خلايا الجسم والدماغ، بشكلٍ موضوعيّ تماماً، فلا تشعر المرأة بأيّ حاجةٍ إلى التغيير، وتعيد إنتاج النظام نفسه بكلّ ثقة، فتسيء بالتالي إلى نضالات نساء لم يرضخن لسحق حقوقهن وَواجَهنَ بإيمان شرسٍ بأحقية قضيّتهن.
طبعاً، لا تمثّل هذه القصص الثلاث سوى عيّنة صغيرة للغاية من مجتمع البحث، أي حارسات الهيكل بمختلف أنواعهنّ وتجاربهنّ وانعكاسات تصرّفاتهنّ، التي تتعدّى ميادين العمل لتشمل الأسرة والتربية وكافة أشكال الحياة الاجتماعية أيضاً.
كما أن اعتبار كلِّ تصرّفٍ يصدر عن امرأةٍ في مجال العمل، بمثابة حراسةٍ للهيكل الأبوي، ليس أمراً متّزناً بالضرورة. فثمة أسباب كثيرة قد تدفع بسيّدةٍ نحو تصرّفٍ أو آخر، حتى إن كان تصرّفها مسيئاً بحقّ غيرها. حارسات الهيكل عادةً ما يعلنّ عن أنفسهنّ جهارةً، تقديراً للسلطة التي حقّقنها، من دون وعيهن بالضرورة لخطورة الدور الذي يؤدّينه.
تجدر في النهاية الإشارة إلى أن قاموس المعاني يضيف إلى تعريف الأبوية، ما يلفت إلى أن نظرةَ المفعول به، إلى النظام الفاعل، هي التي تحدّد ما إذا كان سيعتبره سلبياً أم لا. ويسرد قاموس المعاني مثالاً على ذلك: "لكن قد يشعر اليابانيون مثلاً شعوراً مختلفاً إزاء سياسة الأبوية من قبل حكّامهم". وعليه، باستطاعتنا سحب هذا المثال على سياق مقالنا هذا، لنقول بكلّ ثقةٍ "قد تشعر بعض النساء مثلاً شعوراً مختلفاً إزاء سياسة الأبوية من قبل الرجال في حياتهنّ".
في أيّ حالٍ من الأحوال، لا بدّ لنا من الالتفات أكثر إلى حارسات الهيكل، فهن يحتجن إلينا جميعاً كي يسترجعن أنفسهن إن كان ذلك ممكناً بَعد، كما أن علينا طمأنتهن، لأن الخروج عن مألوفهنّ ليس بالأمر الهيّن.