سمر كوكش.. الفنانة الناجية من سراديب النظام السوري
بعدما اندلعت نيران الثورة السورية، قام النظام السوري بحملة اعتقالات واسعة بحق الفنانين السوريين خوفاً من قدرة هؤلاء على التأثير في الرأي العام. بسبب ذلك، لا يعيش في الداخل السوري اليوم أي فنان معارض، فالكل إما معتقل ومفقود، كما هو حال زكي كورديللو وابنه مهيار، أو لاجئاً في مكان بعيد.
الحديث عن اعتقال الفنانين وما يحدث في سردايب المعتقلات وغرف التعذيب ما زال غير شائع، ومن هنا تأتي أهمية اللقاء الذي أجرته هزار الحرك مع سمر كوكش في "بودكاست العربي الجديد".
جرت العادة في سوريا أن يورّث الفنانون أبناءهم الكار الفني؛ فالغالبية تعمل على إقحام الأبناء في الوسط الفني وتمهيد الطريق لهم من طريق علاقاتهم الشخصية.
لكن الفنانة سمر كوكش لم تختر دخول الفن بتلك الطريقة، رغم انتمائها لعائلة فنية عريقة؛ فهي ابنة المخرج الراحل عماد الدين كوكش، الذي يعد أحد أعمدة الدراما السورية وروادها، وهي ابنة الممثلة الراحلة ملك سكر. سمر كوكش اختارت أن تعيش تجربتها الخاصة بشكل منفصل عن إرثها، لتبدأ بعيداً من مساعدة عائلتها.
سيرة حياة
في العام 1989 دخلت المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق ودرست في قسم التمثيل، وتتلمذت على يد نجم الدراما السورية، جمال سليمان، وقدمت معه عرضين مسرحيين، هما "خادم سيدين" عن نص الكاتب الفرنسي بيير كورني، و"النورس" للروسي تشيخوف. بعد مرحلة المعهد، تابعت سمر دراستها التمثيل في فرنسا، بمشاركتها في ورشة تدريبة من معهد الفنون المسرحية في باريس. ورغم دراستها الأكاديمية للتمثيل، إلا أن سمر لم تجد نفسها فيه، فرحلتها الفنية كممثلة كانت قصيرة للغاية، وكانت مشاركتها في الدراما التلفزيونية قليلة ولم تحصل على فرصة حقيقية للعب أدوار محورية، واكتفت بلعب بعض الأدوار الثانوية؛ أشهرها مسلسل العبابيد العام 1997، وكان آخر عمل تلفزيوني لها العام 2002 وهو مسلسل "البيوت أسرار" من إخراج والدها. وفي العام 2008 ارتدت سمر الحجاب وأعلنت أن مشاركتها التلفزيون ستكون محصورة من خلال تأدية أدوار لشخصيات محجبة؛ الأمر الذي جعلها مغيبة بشكل كامل عن الدراما التلفزيونية منذ ذلك الوقت.
على صعيد آخر، كان اسم سمر كوكش يلمع في عالم الدوبلاج والأداء الصوتي؛ المجال الذي استطاعت سمر أن تبني لنفسها فيه مكانتها العالية. بدأت مسيرتها في الدوبلاج في التلفزيون السوري، ودبلجت بعض الأفلام العالمية، قبل أن تنتقل إلى دوبلاج أفلام الكرتون، مع الممثل مأمون الرفاعي، الملقب بشيح الكار، والذي علمها وأسسها في مجال دوبلاج الكرتون. بمساعدته استطاعت تقديم أول شخصية كرتونية لها، وهي "ران" في مسلسل "المحقق كونان"، الذي بدأ العام 1998 وما زال مستمراً إلى وقتنا الحالي.
وجدت سمر شغفها في دوبلاج الكرتون، واستطاعت أن تتميز فيه من خلال الاستفادة من قدرتها كممثلة، فجسدت شخصيات الكرتون كشخصيات واقعية من لحم ودم، واستطاعت أن تعطي لتلك الشخصية أبعاداً ومشاعر حقيقية؛ الأمر الذي جعل أجيالاً متتالية تتعلق عاطفياً بصوتها والشخصيات التي دبلجتها.
مع التنسيقيات
في العام 2011، ومع اندلاع الثورة السورية، كانت سمر تقطن في منطقة المعضمية بريف دمشق، ومع الأحداث التي شهدتها المنطقة، والعمليات العسكرية التي شنها النظام واستهدف بها المدنيين، انخرطت مع التنسيقيات الثورية هناك بشكل سري، وانحصر دورها في تأمين الأدوية والخبز للمدنيين المحاصرين هناك، مستفيدةً من شهرة والدها، التي ساعدتها على المرور على الحواجز العسكرية من دون تفتيش.
لكن عمل سمر مع التنسيقيات سراً، بقي محصوراً في الإغاثة من دون أن تنخرط في العمل السياسي، وعملت سمر على تهريب النساء والأطفال المصابين من المعضمية إلى خارجها؛ الأمر الذي أدى إلى اعتقالها من قبل عناصر الأمن العام 2013، وتم نقلها إلى الفرع 215 التابع للأمن العسكري والمشهور بسمعته السيئة.
إهانة وإذلال
هناك تعرضت سمر للإهانة والإذلال الممنهج على مدار أسبوعين، قبل أن يتم نقلها إلى السجن المركزي، وبعد عام من سجنها تمت محاكمتها في "محكمة الإرهاب" في دمشق، لتنال عقوبة السجن خمس سنوات وثمانية أشهر، بتهمة تمويل الإرهاب. وبعد ستة أشهر من الحكم قدّم محامي سمر طلباً بنقض الحكم، واستطاع خفض عدد سنوات السجن إلى ثلاث سنوات وثمانية أشهر، ليفرج عنها العام 2017.
وبسبب ما تعرضت له بعدها من مضايقات وملاحقة من قبل الأفرع الأمنية، اضطرت للسفر إلى السودان خوفاً من اعتقالها مرة أخرى. وبعد هذه التجربة الأليمة، لم تفقد سمر شغفها في الدوبلاج، فحاولت بكافة الوسائل أن تعود للعمل في هذا المجال في السودان، وبعد رحلة عذاب شاقة استمرت لسنتين، سافرت سمر إلى بلجيكا لتعيش كلاجئة في بروكسيل.
دراما اذاعية في بروكسيل
وفي "بروكسيل" بدأت سمر كوكش فصلاً جديداً من رحلتها، عندما انتقلت لتقديم الدراما الإذاعية عبر راديو أورينت العام 2021، واختارت أن تبدأ بنص "رسالة حب" عن مسرحية كتبها أبوها، وقُدمت في الذكرى السنوية الأولى لرحيله. النص كُتب قبيل خروج الجيش السوري من لبنان، ولم يتكمن عماد الدين كوكش من نشره لأسباب سياسية، وفيه تناول العلاقات بين السوريين واللبنانيين في محاولة للتحرر من الشعارات الحزبية والسياسية التي تجيّش الشعبين. وقد قدمت سمر كوكش "رسالة حب" بلغة هجينة ما بين العربية الفصحى والعامية، لتحاول أن تحافظ على جماليات اللغة الفصحى وأن توصل إحساس الناس الحقيقي باللغة المحكية.
المُلفت في شخصية سمر كوكش، هو إصرارها على الاستمرار رغم قسوة التجربة، فهي ما زالت تبحث عن نوافذ جديدة لإثبات الذات بعد كل الانكسارات النفسية التي مرّت بها، وبعدما تسببت قراراتها الشخصية وأنشطتها الإنسانية والسياسية بعزلها عن الوسط الفني؛ فهي ما زالت تعمل ولم تتوقف بحثها عن بارقة أمل.