على هامش الشغب في فرنسا...حرائق الأحرار المستبدين
تستحق أحداث الشغب التي شهدتها فرنسا إثر مقتل الشاب نائل أن توصف بـ"الانعطافة" لسببين: أولهما أنها ستمنح التيارات اليمينية في أوروبا قوة لم تحلم بها، وهو ما اتضح مع تدفق مَشاهد الدمار عبر وسائل التواصل، وتفاعل الكثيرين معها، ومنهم مثلاً السياسي اليميني الهولندي خيرت فيلدرز الذي علّق في أحد تغريداته على تويتر متسائلاً: "أين هو الجيش الفرنسي؟".
أما السبب الثاني لاعتبارها انعطافة، فهو تلاقي معلقين عرب من مختلف التوجهات على فكرة دعم دولة القانون والمؤسسات، والتنديد بالاعتداء على الممتلكات بحجة التظاهر وحرية التعبير.
لا داعي هنا للعودة للأرشيف لإثبات صحة فكرة من خطئها، بما أن الزمان والمكان تغيّرا. لكن تبقى لقطة للتاريخ أن يتوافق عرب من أنصار الثورات المضادة وحُكم "المُستبدّ العادل"، مع آخرين مؤيدين للثورات باركوا يوماً ما حتى الاقتتال الأهلي اللانهائي باستخدامهم شعار "الشعب يُريد".
وكانت موجة احتجاجات ضربت العاصمة الفرنسية والعديد من المدن والضواحي عقب مقتل شاب من أصول جزائرية على يد الشرطة. وأعلنت وزارة الداخلية الفرنسية أمس أن 45 شرطياً ودركياً على الأقل أصيبوا، فيما أوقفت السلطات 719 شخصاً في الليلة الخامسة للاحتجاجات. وأضافت الوزارة في بيان إن "المتظاهرين أضرموا النيران في 871 موقعاً عاماً، و577 سيارة، وألحقوا أضراراً بـ74 مبنى خلال الليلة ذاتها".
وتنوعت تفسيرات موجة الاضطرابات الجديدة في فرنسا من الظلم الاجتماعي، إلى التفرقة والتمييز، وسياسات الاندماج، والتهميش، وعنف الشرطة، وفشل الحكومة في معالجة أزمات الضواحي، وتأثير ألعاب الفيديو على المراهقين.
ترافق ذلك مع جدل شعبوي في الإعلام والشبكات الاجتماعية، حول حدود الحرية، وعمّا إذا على الإنسان الالتزام بقانون "قد يبيح لشرطي ممارسة العنصرية" وفقاً لمعلّقين، أو أنها تتوسع انطلاقاً من شعور مهاجر بالقهر "وقد يكون هو نفسه مؤمناً بعقيدة السبي والغنيمة تجاه بلاد الكفار".
وغير بعيدٍ من جوهر الفكرة ذاتها (حدود الحرية)، شهدت الأيام السابقة تنديدات من نوع آخر حين أحرق المدعو سلوان موميكا نسخة من المصحف خارج مسجد في استوكهولم، بعدما حصل على تصريح من الشرطة السويدية لتنظيم تظاهرة.
وكان موميكا الذي فرَّ من العراق إلى السويد قبل سنوات، قد كتب للشرطة في طلب الإذن بالتظاهر: "أريد التعبير عن رأيي حيال القرآن".
باستثناء رمزية إشعال الحرائق، لا تشابهات طبعاً بين الاحتجاج على مقتل الشاب الجزائري الفرنسي، وبين حادثة موميكا، خصوصاً أنّ لكل نموذج خلفياته التي تُقدّم للإعلام موضوعات التجاذب، فيما تظلّ المكاسب العملية في أدراج الخصوم السياسيين.
غير أنّ النموذجين يشيران إلى اشتداد مأزق الديموقراطية القائمة على سياسات الهوية، والمتبعة من قبل تيارات أوروبية (أحزاب، لوبيات إعلام ومنظمات)، والتي يساهم فيها اولئك الذين يقدمون أنفسهم ضمن المجتمع من خلال هوياتهم بدلاً من مواطنيتهم. وبدلاً من خلق فضاءات حُرّة عبر تطبيق "التعددية" القائمة على تعايش جماعات عرقية ودينية وجندرية على قاعدة "المواطنة للجميع"، تزايدت مشاعر العداء الهوياتي، وساد ما يشبه القناعة بأن توسيع "غيتو" الحرّية الخاص بكل جماعة يتمّ عن طريق القضم من غيتوهات الآخرين.
بهذا المعنى، فإن العالم يدفع ضريبة تشكّل وعي عام مفخخ بالحساسيات عقب سنوات من تسييل التجارب الذاتية (مَظالم بحكم الانتماء) واستخدامها في الصراعات السياسية أو لاستقطاب التمويلات، أو لتفتيت الحراكات المطلبية، وتحويل حراك شعبي مثلاً إلى موضوع حجاب ونساء، أو مظلمة أقلية، أو قضية بيئية.
ولعل أفضل من عبّر عن أزمة ديموقراطية تصنع من متعددي الانتماءات مجموعة متنافسين، هو الكاتب السويسري الساخر أندرياس تيل، حين أشار إلى أن الاستبداد في مضمونه العميق لا يحتاج إلى سُلطة بمعناها الكلاسيكي كي تمارسه، بل يكفي وجود مَيل فردي قابل للتعميم ليحظى لاحقاً بإجماع وليصنع "قاعدة" وربما قانوناً.
ورأى تيل في برنامجه Yoyogaga على إذاعة Kontrafunk إن السلوكيات الاستبدادية لا تتكون من أفكار مستبدة ظاهرياً، وإنما على العكس تدعو إلى "الخير العام، وتتحدث باسم الجميع"، وصولاً إلى فرض الأفكار كقواعد تسعى لمصلحة الناس (صحتهم، حريتهم، أمنهم..)، "لكنها عملياً لا تكترث بالضرر اللاحق بمصالح قطاعات واسعة من المجتمع جراء هذه الممارسات".
واليوم تعيش أوروبا على وقع ما يمكن تسميته "تلوين ثقافي اجتماعي" تكاد السلطات أو بدائلها غير الرسمية من جمعيات ومنظمات، تنزلق بسببه إلى لعب دور شرطي يشرف على توزيع الحريات كامتيازات أو كمواد استهلاكية.
في هذه الحالة يصبح مألوفاً أن ينتظر الناس اعتراف الطبقة السياسية بهم بصفتهم مسلمين أو مثليين أو نباتيين "يمثلون قيم الدولة" لتشاركهم مناسباتهم، وتعالج مشاكلهم وتدعم نشاطاتهم، وعندما يتراجع الاهتمام بقضيتهم يستخدمون العنف والنهب والحرق لتحقيق "العدالة"، أو للدفاع "عن كل المظلومين" بحسب تعريف سلوان موميكا عن نفسه في "يوتيوب".
ولو تعلق الأمر بالهويّة، فنحن أمام مواطنة مأزومة في الحالتين: مهاجر يشعر بالولاء المطلق لدولة أوروبية إلى درجة تجعله يتوّعد بإضرام النار في علَم بلده (إلى جانب القرآن)، ومهاجرون يَرَون أنفسهم غرباء ومواطنين درجة ثانية في بلاد ما زالوا يرونها علمانية بيضاء.
في عيون اللاجئين يبقى الأهم ألا تخضع الحقوق الأساسية (الجنسية، الضمان الاجتماعي، السكن..) للمساومة بناءً على معايير "الولاء للقِيَم" أياً كانت القوى السياسية الأوروبية القادمة، وألا يأتي يوم يضطر فيه الباحث عن حياة كريمة للمفاضلة بين بلدان جنوبٍ، شمولية عصريّة تحتكر فيها الدولة الاستبداد والقمع، وبين أخرى في الشمال توزع إمكانات الاستبداد بين فئات المجتمع، وتساوم كل جماعة على حصتها، وتحدد ما يُسمح أو لا يُسمح بحرقه.