مَن نصّب الكاميرا سلطة على أجساد وأرواح؟
لا مفرّ من مَشاهد الأطفال تحت الركام، أحياء وأموات. الهزة الأرضية التي دمرت مدناً في سوريا وتركيا، كشفت مجدداً كوارث أخلاقية جعلت ضحايا الكارثة الطبيعية أيضاً ضحايا للعدسات الباحثة عن سبق، عن مشهد مثير للرعب أو الشفقة ترميه في وجوهنا لتصعقنا به. بدأنا نستفيق الآن من هول الصدمة، وبدأنا نستوعب مدى الانتهاكات. فما لم يأت به القدر، أتت به السوشال ميديا. قبل انتشار الكاميرات ووسائل التواصل الاجتماعي في أيدي الجميع، كان يمكن حصر الأمر ونقاشه بين وسائل الإعلام، وتحميلها مسؤولية أخلاقية عما تقترفه. اليوم صار استغلال الكوارث والمسارعة لتصوير ضحاياها، تصرفاً عاماً، يتسابق إليه الناس، وإن اختلفت نواياهم، وتضيع فيه المسؤوليات.
في الشبكات الاجتماعية، لا يمكننا اختيار ما نشاهده. تفرض الفيديوهات نفسها علينا، من دون أن نتوقعها. نهرب من مشاهدتها في صفحة، فتظهر في أخرى، يتناقلها أحياناً أيضاً صحافيون وإعلاميون. مضمون صادم يهزّ الكيان. تلك الطفلة التي تحمي رأس أخيها، وهي عالقة معه تحت الركام، تتوسل رجلاً أن ينقذها، بينما هو يوثّق اللحظة. يسلّط كاميرا هاتفه عليها وعلى شقيقها، ويسجّل ما تقول، وهي تحت رحمته وعدسة جواله. ترى فيه أملاً، فيما يرى في وضعيتها وكلامها لقطة "مثيرة" ستجلب له ربما نوعاً من الاهتمام وشعوراً بالرّضا عن الذات ومادة للتباهي. غيرها لقطات كثيرة لأطفال مصابين أو حتى قتلى يتم سحبهم من تحت الركام، أو أب يلتقي بابنه للمرة الأولى بعد خروجه من تحت الردم، وقبل أن يخرج من هول الصدمة. مشاهد أخرى لأناس يُنتشلون، فتحاصرهم الكاميرات قبل أن يستوعبو أنهم ما زالوا أحياء.
تطرح المَشاهد المؤلمة سؤالاً أخلاقياً عن التعامل مع الكارثة بهذه الاستباحة لكل الأجساد. للتصوير أهمية التوثيق، بالطبع، بل أهمية كبرى في الدلالة إلى الأماكن المنكوبة والناس العالقين واستنهاض المساعدة بسرعة أكبر بكثير من نُظم الإنذار التقليدية والتلفزيونات ووكالات الأنباء، بل وأحياناً لإعطاء الأمل بالنجاة مع الناجين. لكن الحد الفاصل بين الفوضى والنخوة لا بد منه، وصور التوثيق ليست كلها ممكنة التسريب والتداول في عموم السوشال ميديا. وجوه الناس وأجسادهم، موتهم ورعبهم، له طرق وشروط في الالتقاط وفي التعميم، من دون خدش حُرمتهم كبشر، أحياء كانوا أو أمواتاً. ففي فتح الكاميرا فوق الأجساد العاجزة، قرار بانتهاك خصوصية الضحايا لحظة صاروا بلا حول ولا قوة، مهما حسُنت النوايا. فكيف إذا كان صاحب الكاميرا يبحث عن سبق أو مشهد مثير وسط كل هذا الهول بين أرواح عالقة تحت الردم ومعلّقة بين الأرض والسماء؟! المصوِّر، في هذه الحالة، يفرض سلطته على الأجساد المنهكة، يقرر أنه حر في تصويرهم كيفما يريد، ويقرر كيف وأين سيستخدم صورتهم من دون موافقتهم.
كل من تمكن من الوصول إلى الأماكن المدمرة، بات مراسلاً على الأرض. بات وسيلة إعلامية قائمة بذاتها، يتخذ القرار بتصوير ونشر ما يريد. وتختلف بين هؤلاء، الخلفية الأخلاقية والثقافية والوعي لحجم الضرر، ولتأثير الفعل في الناجين، خصوصاً الأطفال منهم، وهم بالآلاف. مَن يصور العالقين والناجين، لا يلتقط صورة فحسب. بل يسلب هؤلاء حرية الاختيار في لحظة الصدمة، يسلبهم القرار في جسدهم وحياتهم، يصادر حقهم في اختيار طريقة التعامل مع الصدمة في لحظتها. يقرر عنهم ما يريد أن يوثقه في حياتهم، من دون مراعاة أدنى المعايير. يحتقر رغباتهم، بينما يبحث عن إشباع رغباته، ومجدداً: مهما حسُنت النوايا.
عادة ما تكون "الإنسانية" والمناصرة وغيرها، حجج مَن يقدمون على تصوير الضحايا ونشر صورهم لإبراء ذممهم، لإقناع غيرهم، وأنفسهم ربما بأنهم لم يخطئوا. لكن يكفي أن نتخيل أننا وأبناءنا الضحية، لندرك فظاعة الفعل، وأن هناك مَن، في لحظة ضعفنا، يمارس وصاية علينا، يصورنا وينشر ما يريد، ولا خيار لنا بأن نكمل حياتنا ونحن نحاول تخطي الصدمة، لتفاجئنا صورنا وصور أحبائنا من حيث لا نتوقع.
لنفكر في تداعيات هذا الفعل على الناجين من الموت، وتحديداً الأطفال. ربما يكون تصويرهم إمعاناً في أذيتهم واستغلالاً لمأساتهم. سيبقى ذلك الفيديو في الانترنت يذكر تلك الطفلة وهي تكبر بنكبتها، قد يفاجئها أحياناً بينما تحاول أن تعيش يوماً طبيعياً وأن تتناسى تلك اللحظة. والأسوأ أنه قد يُستخدم لإيذائها خلال مراحل نموها. قد يكون مُصوّرها، من حيث يدري أو لا يدري، قد صنع أداة لإيذائها يصعب تدميرها.
هو وجه آخر من وجوه استباحة الإنسان اليومية في بلداننا، واستسهال دمه. مِن المُلحّ، بعد مساعدة الضحايا، الحديث عن هذه الممارسات، والتوعية على ضررها. فالإنقاذ لا يقتصر على سحب الأجساد من تحت الركام. بعد النهوض تبدأ معاناة أخرى، الخروج من الصدمة. كيف نشارك في ما قد يحيي الصدمة في نفوس الناجين من الموت وعائلات المقتولين. أما التبرير بأن توثيق المأساة بأفظع تفاصيلها، ضرورة لكسب التعاطف، فيجعلنا نسأل: هل فعلاً يحتاج العالم لمشاهدة كل هذه التفاصيل القاسية لتتحرك إنسانيته؟