دكتور فيل يؤدب المتظاهرين في الجامعات الأميركية دعماً لفلسطين

نورا خليل
الخميس   2023/10/26
د.فيل الذي اشتهر بكتب "علم النفس الشعبي" وبرنامجه التلفزيوني والذي يحظى بجمهور عالمي
ليست القضية الفلسطينيّة مسألة سياسية تحتاج الى اختصاص يخولك الحديث عنها. انها مسألة حق، والحقوق عادةً لا تتجزأ. ولا تقاس أهمية هذه القضية من حيث المسافة الجغرافية، لا سيما مع تحولها في قلب الاهتمام الشعبي والسياسيّ. وذلك يعني أنّ بإمكان أي كان التعبير عن رأيه، تضامناً أم شجباً. باختصار، إنها مسألة لا تخص السياسيين وحدهم، ولن تخصهم وحدهم بعد اليوم. 
في الأيام الماضية، أطل الدكتور فيل، المعالج النفسي الذي اشتهر بتأليفه كتب "علم النفس الشعبي"، كما ببرنامج يحمله اسمه قدم فيه على مدى عقدين ولا يزال نصائح حياتية للمشاهدين، ولم يقتصر جمهوره على الأميركيين، بل يشمل العالم المتخبط بكيفية البقاء على قيد الحياة بأقل أعباء نفسيّة ممكنة. 

لكن هذه المرة لم يكن خروج الدكتور فيل لتقديم استشارة حول طرائق العمل المنتج أو تخطي أزمة عاطفية، لكن للتحدث عن معاناة "الشعب" الاسرائيلي إثر أحداث السابع من تشرين الاول/أكتوبر، وضرورة تكميم حرية التعبير في الجامعات الأميركية التي تشهد تظاهرات داعمة "لحماس" وليس "لمصلحة الفلسطنيين" كما عبّر، معولاً على أهمية الصداقة الأميركية الاسرائيلية لمحاربة "الإرهاب".

أمام خلفية تحمل العلم الاسرائيلي، يقف الدكتور فيل، ليتلو رسالته المصورة والتي بثت أيضاً على تلفزيون "تي بي أر" الاسرائيلي. فماذا يعني أن يكون معالجاً نفسياً، من المفترض أن يكون شغله الشاغل مآثر الحرب وعواقبها على الانسان، في موقع الواقف أمام الكاميرا بخطاب اختزالي ورسالة مصورة ومعدة مسبقاً يبرر فيها الهجوم الاسرائيلي على غزة وينادي بالتعاطف مع "الشعب اليهودي" الذي تسعى "حماس" لإبادته في اسرائيل وخارجها؟


تمحورت رسالة فيل حول "الخطر" المحدق بالثقافة الأميركيّة بعدما شهدت جامعات أميركية مرموقة مثل "هارفرد"، و"يال"، و"ستانفورد" تظاهرات داعمة لفلسطين، وكان فيل نفسه تعمّد وصف هذه التظاهرات بأنها "تحتفل" بجرائم "حماس" وإن كان الدافع لحصولها هو التضامن مع الفلسطينيين العزل والدعوة لوقف إطلاق النار، وذلك لإضفاء المزيد من التعتيم على المذبحة التي ترتكب بحق الفلسطنيين، وكأنّها أصلاً لم تكن، لتُذكر. 

ويدل محتوى الرسالة، وتوقيتها وكونها أتت على لسان شخص يدمج بين المستويين الأكاديمي والشعبي، ويمتلك ثقة أميركيين كثر، بأنّ الماكينة الاعلامية الأميركية تخشى فعالية التظاهرات التي اتخذت من الصروح الأكاديمية منبراً لها. يوبخ فيل هذه الجامعات ويطالب إداراتها باعادة النظر في سياساتها التي سمحت بوجود جماعات "متطرفة" فيها، مذكراً إياها بضرورة استرجاع دورها الذي يقوم على تعليم طلابها الفكر النقدي، لا مشاعر الكراهية تجاه "اليهود". ويبدو أن د.فيل لا يعلم أن جزءاً لا يستهان به من اليهود قد شارك في هذه التظاهرات، إن لم يكونوا محركاً أساسياً في قيامها.

يتعجب الدكتور الشهير من فكر "المجرمين" في "حماس" وكيف يستطيعون أن يخلدوا الى النوم بعد ذبح طفل بريء. تجاهل التساؤل عما لو أتاه شاب فلسطيني يريد أن يباشر بالعلاج بعدما قُتلت أمه وأبوه وإخوته وزوجته وأبناؤه بصاروخ اسرائيلي سقط على منزلهم؟ هل سيقول له أنه آسف لأن "حماس" متهمة، وفق السردية الإسرائيلية، باستعمال المدنيين دروعاً بشرياً؟ 

ماذا سيقول لطفل آخر قصده للحصول على علاج نفسي بعدما فقد أمه التي لفظت أنفساها الأخيرة تحت الردم، إذ لم تتمكن فرق الاسعاف من الوصول اليها بعدما منعت إسرائيل الوصول الى معدات الإنقاذ؟ هل سيقول له أن صاروخاً "حمساوياً" ضل طريقه الى منزله؟

ماذا سيقول دكتور فيل، إذا أتاه شاب فلسطيني يعاني نوبات قلق حادة بعدما شاهد اسرائيليين يحتفلون بموت الأطفال ويهتفون أنّ لا حاجة لمدراس في غزة بعد اليوم لأن لا أطفال فيها؟ هل سيقول له إن الاسرائيليين يتألمون بشدة وبالتالي يحق لهم أن يعبروا عن هذه المعاناة عن طريق الاحتفالات بعذابات الآخرين؟

لا تقوم البروباغندا الاعلامية على تشويه الحقائق كما كان يُعتقد، وانما تتخذ اليوم وسائل جديّة تبدو أكثر اقناعاً ومصداقية، تتوجه لكل من لا يعرف الكثير عن القضية لأنّه لم يكن يحتاج لأن يعرف في السابق، واتضح له اليوم أنّه في حاجة لأن يعرف بعدما رأى الناس في شتى أقطاب العالم ينقسمون ويتوحدون حول قضية اسمها فلسطين. 

وتقوم هذه البروباغندا آنفة الذكر، بإبراز حقائق معينة والتعتيم على حقائق أخرى، والعمل على مجافاة التاريخ وتغليب رواية من دون فهم الأحداث والمجريات التي ساهمت في خلق هذه الرواية. بالأحرى تقوم بروباغندا أميركيّة اليوم على بناء رواية بانتقاء معطيات حقيقيّة واجتزائها من السياق أو وضعها ضمن رواية بديلة، لتبدو صادقة ولو بشكل انتقائي. 
فالمشاعر الانسانية الأميركية ترفض قتل المدنيين الأبرياء، لكنها أيضاً لا تتبنى قتل المدنيين الآخرين – الفلسطينيين الذين كان قدرهم أن يقتلوا. 

العالم اليوم أمام رواية غربيّة موحّدة ترى في القضية مسألة فعل وردّ فعل. الفعل يكمن في "اعتداء" حماس على دولة اسرائيل، و"حق" اسرائيل في الدفاع عن نفسها عن طريق انقطاع الوصل مع التاريخ السابق. فيما تقوم الرواية الأخرى على مبدأ الفعل ورد الفعل بسياق زمني وتاريخي يقوم على شعب إسرائيلي عانى الى أن تحول من ضحية الى مجرم.

يحاول فيل أن يفهم ما يحصل من زاوية نفسية، حسبما يقول، فهو ليس في حاجة لأن يكون خبيراً جيوسياسياً ليعبر عن رأيه، لذلك وجب على العالم تذكيره بأن تعرض الانسان الى صدمة مؤلمة يحوله إما لشخص متعاطف يتجنب تكرار المأساة نفسها التي اختبرها، أو لشخص غاضب يتماهى مع تجربته الماضية فيشبهها في السلوك العنفي ويسقطها على الآخرين بشكل أكثر حدّة. والسؤال هنا ألّا يشبه الاسرائيليون الحالة الثانية التي تتطلب علاجاً نفسياً يا فيل؟

بدلاً من أن يتعاطف مع "المجرم"، كان عليه أن يحاول أن تجنيب العالم حقده المتجذر في سلوكه الاجرامي كي لا يزيده عنفاً، فالضحية لم تشفَ بعد من ماضيها، بل أعادت جلبه على من لا دخل لهم فيه، هي اليوم تتساوى مع من سبق بفعل الإجرام.