الجمهورية الفرنسية الخامسة في الميزان: الحاكم رئيس أم ملك؟
ما إن وضعت الانتخابات الرئاسية أوزارها، حتى باتت عيون الفرنسيين شاخصة على الاستحقاق النيابي الذي سيجري في حزيران المقبل.
جان لوك ميلانشون، مرشح أقصى اليسار للرئاسيات، دشن حملة حزبه باكراً. فور إعلان نتائج الدور الأول، توجّه بخطاب إلى الفرنسيين حثّهم فيه على الاقتراع لمرشحي حزب "فرنسا الأبية"، للفوز بغالبية نيابية تسمح له شخصياً بتولي رئاسة الحكومة.
ومستفيداً من حلوله في المركز الثالث بفارق كبير عن أقرانه اليساريين، توجه ميلانشون إلى القوى اليسارية داعياً إياهم إلى خوض هذا الاستحقاق بمرشحّين موحّدين. فقد شهدت الأيام الماضية إبرام تفاهمات بين "فرنسا الأبية" من جهة وكل من الحزب الشيوعي وحزب "أوروبا – البيئة"، تفاهمات تضمنت توزيع الدوائر الانتخابية في ما بينها واتفاقاً على عدد من العناوين السياسية.
ورغم تعالي الأصوات الاشتراكية المعارضة، لا سيما من الرئيس السابق فرنسوا هولاند، أقر الحزب الاشتراكي، فجر الخميس، اتفاقاً مشابهاً لخوض الاستحقاق النيابي إلى جانب ميلانشون. اتفاق، لاقى ترحيباً في الأوساط اليسارية، لتعنون صحيفة Libération على صفحتها الأولى يوم الأربعاء: كل شيء بات ممكناً. ومن جهتها، وصفت صحيفة L’humanité الناطقة بلسان الحزب الشيوعي ما جرى بالانطلاقة الجديدة لليسار الفرنسي.
|
وفي ما يشبه الرد على القوى اليسارية الأربع، أعلنت الأحزاب الموالية للرئيس إيمانويل ماكرون، الأربعاء، خوضها الانتخابات المقبلة موحدة تحت شعار "معاً". اتفاقات وتفاهمات لم تنسحب على جبهة اليمين المتطرف بعد رفض مارين لوبن التحالف مع إيريك زمور.
|
لو حصد حزب ميلانشون الغالبية النيابية، سيكون صاحب القرار الفعلي في محاكاة للنظام البرلماني. في المقابل، سيسعى ماكرون للفوز بغالبية نيابية تتيح له الإمساك مجدداً بالسلطة للسنوات الخمس المقبلة، في محاكاة للنظام الرئاسي. هو صراع على الغالبية النيابية يعكس الطبيعة الخاصة للنظام السياسي الفرنسي. ووفقاً لعدد من الحقوقيين الفرنسيين، يجمع الدستور، كما الأعراف السياسية، ملامح من النظامين البرلماني والرئاسي حتى قيل إن النظام الفرنسي "شبه رئاسي".
الصلاحيات الواسعة التي يتمتع بها رئيس الجمهورية، إلى جانب انتخابه بالاقتراع العام، تتناقض مع فلسفة الأنظمة البرلمانية التقليدية التي تمنح الرئيس صلاحيات محدودة من دون شرعية شعبية. أعطى الدستور الفرنسي، رئيس الجمهورية، صلاحية تسمية رئيس الحكومة والوزراء، حل الجمعية الوطنية (البرلمان)، تعيين كبار الموظفين المدنيين والعسكريين، تولي كامل السلطات في حال تعرض البلاد لتهديد وجودي، إلى جانب كونه القائد الأعلى للجيش وصاحب القرار في التدخل عسكرياً خارج حدود بلاده، كما يعود إليه إصدار الأمر لشن هجوم نووي. وبالإضافة إلى النصوص الدستورية، تعزز موقع رئيس الجمهورية بفعل الأعراف، أبرزها القدرة على عزل رئيس الحكومة متى شاء، رغم انتفاء نص دستوري يمنحه تلك السلطة.
المفارقة أن الرئيس الفرنسي، بصلاحياته الواسعة المذكورة أعلاه، غير مسؤول أمام الجمعية الوطنية على عكس رئيس الحكومة الذي يسمح الدستور بمساءلته وسحب الثقة منه.
في الضفة المقابلة، يتجسد النظام البرلماني في انبثاق الحكومة من الغالبية البرلمانية، بخلاف ما يحدث في الولايات المتحدة مثلاً، التي يسمح نظامها باحتفاظ الرئيس بحكومة موالية له حتى لو خسر الغالبية.
من جهتها، "تزاحم" الجمعية الوطنية، رئيس البلاد، على الشرعية الشعبية، إذ يقترع الفرنسيون لاختيار نوابهم. لكن بميزان القوى، تعتبر الشرعية البرلمانية أقل وهجاً من الشرعية الرئاسية: فمن يستحوذ عليها هي المؤسسة التشريعية، وليس النواب الـ577، على عكس رئيس الجمهورية الذي يجسد بشخصه الشرعية الشعبية.
الرئيس.. الملك
هذا الواقع دفع بالبعض إلى تشبيه الرئيس الفرنسي "بالملك" لما يملكه من سلطات "شبه مطلقة". فعندما لاحت أولى مؤشرات أزمة الديون السيادية التي عرفتها منطقة اليورو العام 2010 ، اجتمع نيكولا ساركوزي بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل. خلال اللقاء طرح الرئيس الفرنسي السابق تصوره لتطويق الأزمة، لكن ميركل ردت على ساركوزي بوجوب مراجعتها للبوندستاغ قبل السير بها. وأمام الضغط الشديد الذي مارسه ساركوزي لإقرار خريطة الطريق مع نهاية اجتماعهما، ردت عليه ميركل: "نيكولا، عليك أن تدرك أني لا أملك صلاحياتك". عدد من المؤرخين القانونيين اعتبر أن إرث النظم الملكية والإمبراطورية ما زال "معشعشاً" في الثقافة السياسية الفرنسية.
ليست المشكلة في صلاحيات الرئيس الواسعة، بل في اختلال ميزان القوى. فالدستور منح الرئيس صلاحيتي إقالة الحكومة وحل البرلمان متى شاء، لكن إقالة رئيس الجمهورية ليست بالسهولة ذاتها، بل هي مسار شائك يتطلب أخذاً ورداً بين الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ وموافقة بغالبية الثلثين، ما ولّد انطباعاً أنه فوق المحاسبة طوال ولايته.
وعززت التعديلات الدستورية اللاحقة تلك العلاقة غير المتكافئة: أبرز تلك التعديلات هو خفض ولاية رئيس الجمهورية من سبع إلى خمس سنوات، ابتداء من العام 2002، لتصبح ولايته متزامنة مع ولاية الجمعية الوطنية. للوهلة الأولى، يبدو الأمر صحياً لناحية ضمان استقرار المؤسسات، فطوال سنواته الخمس سيتمتع الرئيس بغالبية نيابية تسهل له تطبيق سياسته، على عكس ما كان يجري سابقاً حين كان الرئيس مهدداً في منتصف ولايته بخسارة الغالبية النيابية ما يفرض عليه التعايش مع حكومة مناوئة له.
لكن تعديل ولاية الرئيس، تلاه قرار آخر تلخص في إجراء الانتخابات النيابية بعد ستة اسابيع من الرئاسيات، ما أفرغ الاستحقاق التشريعي من مضمونه. بطبيعة الحال، لن يكون لدى الأحزاب الفرنسية من جديد لتخوض على أساسه الانتخابات التشريعية، إذ سبق لها عرض برامجها على مدى أشهر خلال المعركة الرئاسية.
ومنذ العام 2002 باتت الانتخابات التشريعية تُخاض بالمنطق ذاته: الحزب الموالي للرئيس المنتخب يطالب الفرنسيين بمنحه الغالبية النيابية حتى يتمكن من تطبيق برنامجه. من جهتها، تجاهد أحزاب المعارضة لحصد الغالبية، مبررة ذلك بضرورة منع الرئيس من احتكار السلطة. وعليه، فقدت الجمعية الوطنية بعضاً من تأثيرها في الحياة السياسية لصالح رئيس الجمهورية، وخير دليل هو المشاركة المتدنية في الاستحقاق التشريعي مقارنة بنسب التصويت في الاستحقاق الرئاسي.
وأدى تقصير ولاية الرئيس الفرنسي إلى خلق معضلة أخرى تتجسد في العلاقة مع رئيس الوزراء. الدستور الفرنسي ليس واضحاً بما فيه الكفاية لناحية توزيع الصلاحيات بين رئيسي الحكومة والجمهورية. كما سبق وذكر آنفاً، عندما تكون الغالبية النيابية مناوئة لرئيس الجمهورية، يصبح رئيس الوزراء صاحب القرار الفعلي. أما إذا كانت الغالبية البرلمانية موالية لرئيس الجمهورية، يكون الأخير صاحب القرار. في حالة استحواذ الرئيس على الغالبية النيابية، كرست الأعراف السياسية مبدأ تفرغ الرئيس لرسم السياسة العامة بعيدة المدى، على أن يتولى رئيس الحكومة الإجراءات التنفيذية.
توزيع الأدوار على هذا النحو أظهر فعالية في السابق، لكن خفض الولاية الرئاسية إلى خمس سنوات، دفع به إلى التدخل في تسيير شؤون البلاد، رغبةً منه في حصد نتائج سريعة تتيح له تجديد ولايته. صراع دفع إلى حالة من الضبابية لناحية العلاقة بين المؤسستين.
خلل مؤسساتيّ
هناك شبه إجماع في الوسط السياسي الفرنسي على وجود خلل في آلية عمل المؤسسات، ما يستوجب إصلاحها. يرى البعض أن الدستور الفرنسي بات على تناقص مع التحولات التي شهدتها البلاد خلال العقود الستة الماضية. فحين أنيطت تلك الصلاحيات الواسعة برئيس الجمهورية العام 1958، كانت البيئة السياسية تسمح له بممارسة سلطاته هذه. فالدولة كانت شديدة المركزية ولم تكن الشراكة الأوروبية قد بلغت ما بلغته اليوم من اندماج تخلت بموجبه الدول الأعضاء عن جزء من سيادتها. كما كان القطاع العام أكثر تغلغلاً في الحياة الاقتصادية من القطاع الخاص إلى جانب احتكار المؤسسات الإعلامية وما يستتبعه ذلك من قدرة على التحكم في نشر المعلومة.
دفن الجمهورية الخامسة؟
في الأيام الماضية أعلن ماكرون عزمه تشكيل لجنة لدراسة الإصلاحات الدستورية بهدف "تجديد الحياة الديموقراطية". ستتمثل في اللجنة الأحزاب، ما يدل على أنه ستكون أمامها ورشة مفاضلة كبيرة قبل الخروج بتوصيات. فالإجماع على وجوب إصلاح النظام السياسي الفرنسي لا ينفي تعدد الآراء حول الحلول الممكنة.
جان لوك ميلانشون وحزبه "فرنسا الأبية"، هو الأكثر جذرية، لرغبته في دفن الجمهورية الخامسة، لصالح جمهورية سادسة ذات نظام برلماني، وهو مقترح دونه عقبات: ما زال طيف الجمهورية الرابعة حاضراً في الذاكرة الفرنسية. تلك الجمهورية البرلمانية عانت من عدم الاستقرار الحكومي بعدما عرفت 22 حكومة خلال أعوامها الـ12، والسبب هو تركيبة البرلمان وتعدد الكتل على نحو سهّل إسقاط الحكومات من جهة، وصعّب الاتفاق على تشكيل غالبية نيابية جديدة من جهة أخرى. بالتالي تبدو جمهورية ميلانشون السادسة صعبة المنال.
قوى سياسية أخرى ترى الحل في الإصلاح تحت مظلة الجمهورية الخامسة. مارين لوبن تقترح العودة إلى ولاية رئاسية من سبع سنوات من دون إمكانية تجديدها، وهو اقتراح يلقى بدوره معارضة، ذلك أنه من أسباب قوة الرئيس الفرنسي وقدرته على فرض سياسته هو إمكانية انتخابه لولاية جديدة.
يُشاع دوماً أن نفوذ الرئيس الفرنسي يتراجع خلال ولايته الثانية، بسبب الصراع على خلافته. هذا ما جرى خلال الولاية الثانية لشيراك التي شهدت صداماً بين رئيس وزرائه دومينيك دوفيلبان، ووزير داخليته نيكولا ساركوزي. في الأشهر الماضية، ظهرت مؤشرات تدل على أن فكرة خلافة ماكرون بدأت تراود بعض المحيطين به، أبرزهم رئيس حكومته السابق إدوارد فيليب. وعليه، قد يجري العمل على إجهاض اقتراح لوبن حفاظاً على قوة الرئيس.
لكن شريحة من السياسيين ترى الحل في إصلاح السلطة التشريعية وليس التنفيذية. يطرح فرنسوا بايرو، رئيس الحركة الديموقراطية، وحليف ماكرون، تعديل قانون الانتخابات الحالي الذي يعتمد الدائرة الفردية. يطالب بايرو بانتخاب النواب على أساس النظام النسبي، ما يسمح، وفقاً لأصحاب المقترح، بتجديد في الحياة السياسية عبر إيصال نواب من خلفيات متنوعة على نحو يعكس ديناميكية المجتمع الفرنسي، تمثيلاً لعدد أكبر من الأحزاب، لا سيما الصغيرة منها، وإلغاء الإجحاف اللاحق ببعضها الآخر كحزب "التجمع الوطني" الذي تمثل في العام 2017 بـ8 نواب فقط رغم وصول مرشحته مارين لوبن إلى الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية في العام نفسه. اقتراح لا يلقى بدوره الإجماع المطلوب خشية تشظي الكتل النيابية، وما يستتبعه من تهديد للاستقرار الحكومي، ما قد يحول فرنسا إلى جمهورية رابعة مقنّعة.
وستحمل قوى سياسية اقتراحات متفرقة إلى اللجنة المذكورة كإلغاء منصب رئيس الوزراء و/أو مجلس الشيوخ أو حتى إلغاء بعض النصوص الدستورية. ابرز تلك النصوص ما اصطلح على تسميته بالـ49.3 (نسبة للفقرة الثالثة من المادة 49) التي تجيز للحكومة إقرار مشاريع القوانين من دون اللجوء إلى تصويت الجمعية الوطنية، وهو ما تفعله الحكومات الفرنسية عند طرح مشاريع شديدة الخلافية.
وأخيراً، تعتبر جهات سياسية أخرى أن المشكلة لا تكمن في عمل المؤسسات، بل في البيروقراطية الفرنسية التي تجهض الإصلاحات. برأيهم، ما تحتاجه فرنسا ليس تعديلاً دستورياً بل ليونة في آلية اتخاذ القرار عبر إصلاح إداري شامل.
الواضح أن فرنسا عاجزة حتى اللحظة عن إيجاد نقطة توازن تجمع بين الاستقرار الحكومي الذي أوجدته الجمهورية الخامسة من جهة، وميزان قوى متكافئ بين السلطات من جهة أخرى.