صرخة من السويداء: على جميع أهالي "الخربة"...
من أسبوعٍ إلى آخر يَكتُبُ نشطاء السويداء وَرَقاً وأحلاماً، ويرسلونها عبر لافتاتهم، علّها تصل مرأى ومسامع سوريّين آخرين مُفارِقِين لِخِلٍّ اسمهُ "الأمل بالتغيير".
يعرف أبناء جبل العرب أن الطريق طويل لجمع ما تبقى من سوريا، لكنهم يُظهِرون في احتجاجهم المتكرر نضج تجربتهم بالتعامل مع النظام ومع شركاء الوطن على السواء.
"نعم لسوريا حرّة موحدة مستقلة"، "أنا أمثل الشعب الفقير"... عبارات تصدّرت اعتصامات ساحة السير "الكرامة" وسط المدينة، بعد أن اتضح إصرار المعتصمين على مواصلة وقفاتهم من دون الالتفات إلى منحات مالية رئاسيّة أو مراسيم عفو أو وعود ببواخر نفط إيرانية أو بوَقف تحليق سعر الدولار.
وبالتوازي، واكَبَ الوقفات الأسبوعية نشاط افتراضي وَسّع رقعة المشاركة عبر رفع شعار "هنا السويداء.. هنا سوريا"، بالإضافة إلى حملة للكتابة على الجدران.
|
ورغم ما أحاط بالحراك من تردّد وتشكيك وتباين ردود الفعل، نجَحَ المنظمون بتحفيز البعض للتعبير عن التضامن. كما استطاعوا صياغة خطاب يضمّ عناوين جامعة خالية من رطانة جوفاء، وتمثّل مَطالِب تُهِمّ السوريين.
وفيما يبدو النشاط الاحتجاجي مرشحاً للاستمرار تبرُز أمامه تحديات متوقعة في مقدمتها مساعي النظام المرتقبة والمعتادة لاحتواء أي تحرك شعبي عبر وفود محلية تقوم بمهام تفاوضية لتقديم جوائز ترضية.
أما التحدي الآخر فهو إمكانية تأجيج صدام مع القوى الأمنية بما يضع الكلمة تحت رحمة الدمّ، أو تحت شروط مشاركة أصحاب المشاريع الجاهزة المنفصلة عن واقع السوريين.
وتبقى المعركة الأصعب هي في بناء وعي مشترك، وهو ما يُمكن أن يُقلق النظام فيما لو اتسعت دائرة الاهتمام، واجتمع الناس حول مطالب واحدة.
ولعلّ ألدّ أعداء هذا الوعي سُوريّون يهدمون المُشتَرَكَات بِمَعَاوِل الحماقة أو السفاهة. وذلك لا يعني أن هناك مشكلة بوجود أصوات مخالفة تواكب الحراك، وإنما بالتصويب عليه من جهات عديدة في وقت واحد وضِمن كيليشيهات الجيوش الإلكترونية للأسد أو للجولاني أو لِسِواهُم من كبار أو صغار مُتقاسِمِي الكعكة السوريّة.
وبين هؤلاء يَحضُرُ مؤيدو النظام من أصحاب عقيدة المؤامرة الكونية بوجوهٍ وأسماءٍ مستعارة غالباً، وهم وإن خبا نجمهم ولم يَعُد لهم دور عقب الخراب السوري الكبير، فإنهم عفوياً أو بتنسيق مع فرع أو قائد ميليشيا قد ينشطون في أي لحظة لضرب سمعة الحراك بخبر أو تقرير، مُستعمَل للمرة المئة ربما، حول وجود أصابع إسرائيلية تُحرّك المتظاهرين مثلاً.
على جانبٍ مقابل، يَكمُنُ الأسوأ وهُم من تَصِح تسميتهم بـ"كهنة مَعبَد الثورة المباركة". وينتمي لهذه الشريحة طيفٌ من سوريين، يُقيم قسم كبير منهم في بلاد اللجوء، لا زالوا يعايرون أبناء المناطق الناجية من البراميل بالقول: "لو كانوا طلعوا من البداية" (طبعاً بأسلوب انتقائي يستثني مدناً اشتُهرت بمَشاهِد "سوريا بخير" وحفلات الشواء غير المبالية بالمظاهرات عام 2011) لإعطاء انطباع بأن الثورة هي شأن إسلامي سُنّي خالص، وأن المواقف منها كانت طائفية منذ البداية بلا عوامل وحسابات طبقية ومجتمعية.
|
والحال أنّ بين هذه الفئة مَن الثائرين الأوائل، متضامنون التفوا حول احتجاجات السويداء، في حين فضّل آخرون ألا يروا في سوريا سوى مقبرةً يمارسون النعيب على أطرافها مِن منطلق: "نحن أصحاب الامتياز والأسبقية والثورة الصحيحة".
ولئن كان الموقف السلبي لِمَن قدموا تضحيات أو أعمالاً ثورية (مجانية أو مأجورة) قرباناً لحرية بلدهم مفهوماً، فالمهم أيضاً ألا يَبلُغَ موقفهم حدّ وَعظٍ يَنُمّ عن تَشوُّه إدراكي. فليس منطقيّاً أن تأتي التوجيهات من أصحاب تجربة فاشلة حتى وإن كانوا ضحايا، والأفضل أن يُفسِحوا المجال لدخول هواء جديد إلى العقول. وإن كان لهُم أن يُقدّموا للحراك الحالي خدمةً حقيقيةً فستكون بصيغة عِبَر ودُروس يجب ألا تُعاد مثل تنبيه الناس من الغرق في تحالفات مرحلية مع منظمات وتيارات إسلامية ترسم سوريا على مقاس مُموّليها، وتحذير الحالمين بالتغيير من مغبة استبدال بلَدِهم بحُكم قرية على أطراف دمشق أو حلب أو دير الزور، ومن خطورة الاستعاضة عن العمل السياسي بالتحكّم في حياة الناس، أو الاكتفاء بوضع معايير لفصل السياسة عن الرياضة، وتحقيق نصر إلهي بتحديد من يَجوز ولا يجوز الترحم عليهم من الشخصيات.
يتطلّب الأمر إذاً تفكيك خليط المكابرة والنرجسية والولاء الضيّق لدى ثوار ونشطاء امتلكوا إمكانيات الحشد والتجييش، وفعلوا كل ما يمكن لإقناع السوري أن الخبز شيء والكرامة شيء آخر، وأن عليه نسيان ما يرتبط بمعيشته والمطالبة بالأهداف البعيدة فقط. وفي النهاية تَبَيّنَ للسوريين بمؤيديهم ومعارضيهم أن الجوعى للسُلطة هم وحدهم من يُعايِرونَ المُطالِبَ بالخبز بأنه جائع.
قد لا يستطيع أبناء السويداء تغيير آراء من يُحمّلونهم مسؤولية "تأخير انتصار الثورة" ويتجاهلون دور أصحاب الصواريخ الإسلاموية الاستعراضية على أبواب دمشق آنذاك. لكنّهم فعلياً استطاعوا التعلّم من أخطائهم وأخطاء شركائهم في الوطن. وكان الدرس الأهم المُستفاد هو أن الثورة حين تصبح محاولة لاستبدال جماعة حاكمة بجماعة أخرى فإنها لا تبني وطناً، وأن المشاركة في تغليب طائفة على أخرى لا ينتج حلولاً، بل يزيد عدد الرؤوس المحطَّمة المُستخدَمة لهدم جدار السلطة.
"وين في شغلة فيها تكسير راس بيزتوني...". بكلماته هذه، أعلن "فيّاض" في مسلسل "الخربة" رفضه أن يكون أداةً بيد جدّه "أبو نمر" لتصفية حسابات مع "بيت بومالحة". وفي هذا المسلسل الذي صوّرَ بُنية المجتمع السوري المُنتِج لسلطات تشبهه جاء يوم أضرب فيه "رياض" عن اجتماعات العائلة المقامة لتحقيق رغبات جده "أبو نايف" التسلطية. ليعلن بعدها أنه لن يلبي سوى دعوات تبدأ بعبارة: "على جميع أهالي الخربة.....".
أما الصرخة الأبرز، فأتت في الحلقة الأخيرة على لسان الأستاذ "صيّاح" عندما رفض البقاء على الحياد، وحثّ أبناء قريته على اقتلاع لافتتين قسّمتا القرية إلى قسمين، وقال: "والله إذا ضللو.. بمية سنة ما عاد فينا نشلعهم".