معركة إشارة التوحيد المغربية: الألمان يعتذرون
شَكّلَ اعتذار قناة تلفزيونية ألمانية عن اتهامها لاعبي المنتخب المغربي بالتشبّه بتنظيم "داعش"، مناسبة لاحتفال نشطاء قادوا حملة للردّ على "الافتراء بحق المسلمين".
واعتذرت قناة "فيلت" لمتابعيها عن "خطأ أوردته" في تقرير لها عندما اعتبرت رفع السبابة من قبل اللاعبين إشارة داعشية. وأضافت القناة في اعتذارها أن "التنظيم هو من تبنى حركة الإصبع"، موضحة أنها "لم تقصد أن تجرح المشاعر الدينية".
وفضلاً عن الاعتذار (محور الترند) استضافت القناة رئيس مركز الفقه الإسلامي في جامعة مونستر الألمانية د. مهند خورشيد الذي أوضح في مداخلة له أن ما قام به اللاعبون "هو إشارة التوحيد المنتمية إلى الثقافة الإسلامية" وأنهم "أرادوا شكر الله الواحد"، مضيفاً أنه لا يجب المبالغة في تفسير الصورة.
وبينما هلّل متابعون "لتراجع القناة عن تقريرها"، رأى فيه آخرون نصراً غير كافٍ، في ظل استمرار "انعدام مِهنية الصحافة الغربية".
والحال أن وضع ما جرى في سياقه الواقعي يتطلب الإقرار بدايةً بأن هذا التجاذب جزء من معركة إعلامية دارت على هامش مونديال قطر، وجعلت من قيم الشرق والغرب مادة لنزاع إيديولوجي.
ومن ناحية ثانية تستدعي صيغة الاعتذار الألماني التوقف، فرغم حديثها عن "تصحيح معلومة"، فقد ركزت على "مشاعر الناس"، بما يعني مواصلة النظر للمسلمين ككتلة تسخن وتبرد وتغضب وتهدأ.
وبالعودة لأصل الجدل، وبمراجعة مضمون التقرير حول حركة الأصبع المرفوعة للأعلى نجد عبارة "هذه تحية يتبناها تنظيم داعش"، ثم يضيف المذيع: "من غير المعروف إذا كان اللاعبون المغاربة يدركون معنى هذه الحركة".
|
هنا، وبعيداً عن حملات الدفاع والهجوم، يجب السؤال: أين هو اتهام المسلمين بالإرهاب؟". وعمّن أراد النشطاء الدفاع بالتحديد؟ ومَن استفاد من حملة وضعت فرضية، وأثارت الرأي العام؟
لا ينفي هذا بطبيعة الحال صفة التسييس عن جزء من الإعلام الغربي، وفي الوقت ذاته فإنه يُظهر أقطاباً إعلامية عربية كطرف إضافي في التعامل مع المسلم باعتباره خزاناً لحساسيات تخلط العام بالخاص، وتمزج مشاعر الظلم والاعتزاز بغرائز الدفاع عن المُقدّس والوصاية على الآخر.
وبالنسبة للجدل حول مضمون إشارة الإصبع من قبل لاعبين مغاربة، فالأكيد أنه من الجنون الغوص في نوايا اللاعب لمعرفة ما تحمله الحركة من أبعاد، وليس معقولاً أساساً تجريم المقاصد كإحدى الساحات التي يشتهي مؤثرون وإعلاميون نقل المعارك إليها.
غير أنّ ما كان لافتاً حقاً استخدام معلقي وسائل التواصل المسلمين للأسلوب والمنطق المكرر: "نحن مثل البقية" كي يهربوا من التخصيص، فعادوا لممارسة الانغماس الرمزي بالقول: "لسنا الوحيدين، بل إن ميسي وبابا الفاتيكان وشخصيات أخرى استعملت الحركة ذاتها".
هذا أسلوب يطبع عادةً دفاعات المسلم المُسيّس الحائر بين جنّة خصوصيتهِ وأعبائها، فعندما يحاول التملص من النظرة السلبية للحجاب مثلاً، يشير إلى كون غطاء الرأس مُستخدماً لدى الراهبات. ولعلّ ذلك يوضح جذر المشكلة من خلال اشتراك أطراف عديدة في فصل المسلم عن محيطه تحت عناوين مختلفة، ما يجعله يلجأ للإيحاء بالتماثل عند دفاعه عن صورته.
وتستبطن حملة الرد على الإعلام الألماني جانباً آخر هو دفاع المسلمين عن حقهم في التعبير عن النصر الرياضي والسياسي والثقافي بطرقهم الخاصة النابعة من هويتهم.
وبينما يبدو الأمر حرصاً على الحريات العامة، وإبعاداً للغة الجسد عن معارك الإدانة، فإنّ الواقع يظلّ مختلفاً بما أنّ المسلم الثائر ضد قمع حريته وإيماءاته قد تخدش سكينته الزجاجية إيماءة من جماعات أخرى. حاله كحال أي منتمٍ لتيار فئوي ديني أو قومي أو جندري لا يرى في نفسه سوى ضحيّة متحفّزة لتسجيل النقاط بحق مضطهِديها وأعدائها التاريخيين والحاليين، المؤكدين والمُحتَملين.
وبهذا المنطق، كان مفهوماً استخدام أحد اللاعبين المغاربة لإشارة السبابة ذاتها للمرة الثانية خلال أيام أثناء زيارة نجم الفنون القتالية المختلطة الروسي المُسلم حبيب نور محمدوف، لمقرّ إقامة المنتخب المغربي لتهنئته.
وللمفارقة فإن محمدوف يُعتَبر من السَبّاقين في استخدام سبابة التوحيد أو النصر في نزالاته. وهو يحظى بشهرة واسعة في العالم العربي والإسلامي باعتباره قدوة ومسلماً مثالياً صاحب قوة وحضور وخصوصية. كما أن له تصريحات ذات بعد ديني وسياسي، أشهرها انتقاده للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ونشره صورة لوجه ماكرون مطبوعاً عليه حذاء، في أعقاب الجدل حول نشر الرسوم المسيئة للنبي محمد، قبل نحو عامين.
بالنتيجة يصبح من الممكن القول إن اللاعبين المغاربة يدركون معاني إشاراتهم أكانوا يقصدون فيها شكر الله أو التأكيد على تفوق المسلم أو رد اعتباره، بغض النظر عن مصادفات التماثل مع تنظيم معين.
وبالتالي فقد كان ما أحاط بحملة الرد على التقرير الألماني هو نوع من شعبوية صوّرت طرفي اللعبة كملائكة في مقابل شياطين. في حين أنهما شكّلا حقيقةً، عن دراية أو جهل، موقعين متحاربين يتبادلان إشارات توحي بالقدرة على الحشد خلف رايتيّ الإسلام أو الحرية.
أما الجمهور سواء مّن عبّر عن خوفه من "داعش" أو عن غضبه من ربط التنظيم بالإسلام، فقد أنجز مهمته المفترضة في تشكيل مشهد صراعي دعائي مرشح للتكرار طالما أن "لوبيات" إعلامية وأكاديمية تعود في كل مرة لترتدي سترة الطبيب النفسي، وتتسلح باتهام الآخر بالإسلاموفويبا، وتكرس جهدها فقط لـ"إيضاح الصورة للغرب، والفرز بين من يمثل ولا يمثل الإسلام الصحيح".
وبدلاً من التفرغ لدور كهذا، يمكن لمؤثري الإعلام مثلاً العمل لهدم ركائز التطرف القائمة على مشاعر العزلة والاستعلاء الأخلاقي عند تيارات إسلامية.