النظام يرد على اتهامات الكيماوي: الغرب استخدم الأسلحة النووية!
لم يعد النظام السوري مهتماً كثيراً بالدفاع عن نفسه ضد طيف واسع من الانتهاكات وجرائم الحرب التي ارتكبها منذ انطلاقة الثورة السورية العام 2011، ولا يعود ذلك لـ"انتصاره" في الحرب السورية واستعادته مناطق واسعة من البلاد كانت في مرحلة من المراحل خارج سيطرته، بل لأن السعي الدولي إلى تحقيق العدالة وتوجيه الاتهامات لرموز النظام، تضاءل على مر السنوات، وبقي محصوراً بعدة نقاط تكرر نفسها وتتكرر معها الردود الرسمية الباحثة عن خاتمة على ما يبدو للصراع في البلاد، من زاوية إنسانية.
ولعل جرائم استخدام الأسلحة الكيماوية، واحدة من آخر الاتهامات التي يواجهها النظام، من قبل المجتمع الدولي ومنظمات حقوقية مختلفة، مع تراجع الحديث الدبلوماسي والإعلامي عن انتهاكات النظام الأخرى، مثل قضايا المعتقلين والحريات المتدنية في البلاد وتداول السلطة وغيرها. ولا عجب بالتالي في أن تصبح معظم الإنتاجات التي يقدمها إعلام النظام في العامين الأخيرين على الأقل، مخصصة لـ"تفنيد" تلك الاتهامات، أمام الجمهور المحلي، بما في ذلك الفيلم الوثائقي الذي قدمته قناة "الإخبارية السورية" الرسمية، بعنوان "خفايا الكيماوي"، قبل أيام.
وفي الفيلم بالطبع، لا جديد، سوى تكرار تناقضات رواية النظام السوري للأحداث الخاصة بأبرز المجازر الكيماوية في البلاد، وهذه المرة على لسان نائب وزير خارجية النظام، فيصل المقداد، وأعضاء في مجلس الشعب وإعلاميين موالين. وتتراوح تلك الرواية بين إنكار استخدام أسلحة كيماوية في البلاد أصلاً، إلى القول أن من استخدمها هم "الإرهابيون" وكان ضحيتها جنود في الجيش السوري، مروراً بتبرير امتلاك تلك الأسلحة من الأساس، وتوجيه محاضرات أخلاقية حول استخدام الغرب لها في عدد من الوقائع عبر التاريخ، بعكس "الدولة السورية" البريئة، التي تقترح في سياق الفيلم، التفاوض مع الغرب، لمساعدته في تقديم معلومات عن الإرهابيين الأجانب، بشرط إسقاط ملف الكيماوي "المزعوم" نهائياً.
ومن السخيف طبعاً اقتران كلمة الأخلاق مع نظام مجرم كنظام الأسد في جملة واحدة، لكن النظام يقدم نفسه دائماً أمام الجمهور المحلي بصورة بريئة. ولأن امتلاك الأسلحة الكيماوية أصلاً يبدد تلك البراءة المفترضة أمام من يصدقها، يأتي التبرير بأن إسرائيل تمتلك الأسلحة النووية وأنه من غير العادل أن تتخلى الدول العربية كلها عن أسلحتها بما في ذلك السكاكين فيما تحتفظ إسرائيل بمفاعل ديمونة، وأن امتلاك الذخيرة الكيماوية كان فقط طريقة للردع.
يقول المقداد في سياق الفيلم هنا، أنه يكرر بشكل رسمي إدانة دمشق لاستخدام أسلحة الدمار الشامل، بما في ذلك الأسلحة الكيماوية في أي وقت ومن قبل أي دولة، وذلك من منظور أخلاقي حسب تعبيره. بالتوازي مع الحديث عن إجراء فرنسا لتجارب نووية في الجزائر مطلع ستينيات القرن الماضي، ثم القفز إلى استنتاج أن الدول الغربية، الشريكة في المؤامرة على سوريا قامت بالهجمات الكيماوية في البلاد، استناداً إلى تاريخها مع أسلحة الدمار الشامل، مقارنة بعدم وجود أدلة تثبت أن الدولة السورية قامت بشيء مماثل.
ولا يشكل ذلك فقط أسلوباً دعائياً كلاسيكياً يقوم على تحويل الانتباه من قضية إلى قضية أخرى، بل هو تتويج لما قام به النظام وحليفته روسيا، من طمس وإخفاء للأدلة الخاصة بالمجازر الكيماوية في البلاد، بشكل ممنهج، ويبرز ذلك مثلاً عند النظر في مجزرة الكيماوي التي حصلت في دوما العام 2018، ففيما كانت روسيا حاسمة في خطابها الدبلوماسي، في نفيها لاستعمال السلاح الكيماوي في دوما، إلا أن الكولونيل الروسي ألكسندر زورين، زار مسرح الجريمة بعد ثلاثة أيام على وقوعها، بمعزل عن أي جهة دولية محايدة متخصصة في التفتيش عن الأسلحة الكيماوية. وتم منع منظمة "حظر الأسلحة الكيماوية" من دخول المدينة بحجة "الظروف الأمنية"، بغرض تشويه الأدلة، حسبما تكرر جهات مستقلة وناشطون معارضون، ثم اعتمدت الرواية الرسمية، التي روجها النظام وموسكو معاً إلى شهادات زائفة، قدمها أشخاص من دوما تم الضغط عليهم.
وفي سياق الفيلم، تتم الإشارة إلى عجز الأمم المتحدة ومنظمة "حظر الأسلحة الكيماوية" عن الوصول إلى أدلة حاسمة بخصوص أي من المجازر الكيماوية التي حصلت في البلاد منذ العام 2013، ولا تتم الإشارة لمنع اللجان الأممية من التحقيق بحرية وزيارة الأماكن التي حصلت فيها المجازر، من طرف النظام، بل تعميم نظرية المؤامرة الواهية بالقول أن الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة وإسرائيل، أعطت الأوامر بذلك، مثلما أعطت الأوامر لوسائل الإعلام الكبرى بعدم التوجه لسوريا للتغطية، وهي كذبة أخرى قدمها الفيلم، لأن النظام في الواقع هو من منع الإعلام المستقل من العمل داخل الأراضي السورية.
والحال أن النظام بعد انطلاقة الثورة السورية العام 2011، اعتبر الثورة "فبركة إعلامية" وطرد مراسلي وسائل الإعلام العربية والأجنبية تباعاً بتهمة "التحريض"، واعتمد على "الإعلام المقاوم" لإيصال وجهة نظره عن الأحداث في البلاد، كما عمد منذ العام 2016 إلى توجيه الدعوات للصحافة الغربية من أجل زيارة سوريا والاطلاع على "حقيقتها"، وذلك عبر لقاءات وجولات ميدانية معدة مسبقاً تضمن بعضها مقابلات مع رئيس النظام بشار الأسد نفسه. ويمكن الدلالة على ذلك بتصريحات وزير الإعلام السوري عماد سارة، في وقت سابق من العام الجاري، طالب فيها وسائل الإعلام العالمية الكبرى بالموضوعية والحياد كشرط للسماح لها بالدخول إلى البلاد وتغطية الأحداث فيها، حسب تعبيره.
هذه السياسة الإعلامية الصارمة كان لها أهداف سياسية على المدى البعيد، فعبر منع وسائل الإعلام العالمية من العمل في البلاد من جهة مع ملاحقة واستهداف الإعلاميين المعارضين بشكل ممنهج، من جهة ثانية، نشر النظام وحلفاؤه سردية بديلة تقول أن التقارير الصادرة عن الناشطين الإعلاميين الموجودين خارج سوريا، والتي تستند إليها المنظمات الحقوقية ووسائل الإعلام الكبرى، فاقدة للمصداقية لعدم دراستها الواقع على الأرض.
ولم يكن النظام مهتماً هنا بالوصول إلى نتائج حاسمة تبرئه من التهم الموجهة ضده، بل كان يهدف فقط إلى خلق حالة من عدم اليقين، ما يعني عدم القدرة على ملاحقة رموزه لمحاكمتهم. علماً أن لجان تحقيق مستقلة أو تابعة للأمم المتحدة ووسائل إعلام مثل "نيويورك تايمز"، أثبتت مرات عديدة، وعبر الاعتماد على قوة التكنولوجيا، استخدام النظام للأسلحة الكيماوية في سوريا، فيما تحذر وزارة الخارجية الأميركية ومنظمات مثل منظمة العفو الدولية "أمنستي" و"هيومان رايتس ووتش" و"الشبكة السورية لحقوق الإنسان" وغيرها، من أن النظام قد يستخدم تلك الأسلحة مجدداً، مع امتلاكه لمخزونات سامة سرية، لم يقم بإتلافها الرغم من الاتفاق الأميركي مع روسيا على تدمير ترسانة الأسلحة الكيميائية لدى النظام العام 2013.