الرواية الروسية عن كيماوي دوما: هلَع وبسكويت وغبار
لم تنتظر روسيا ما سيُسفر عنه عمل مفتشي الأسلحة الكيميائية في دوما الذين جرى تأخيرهم بالتزامن مع العبث بمسرح "الجريمة"، فبادرت إلى استباق أي نتائج محتملة أو متبقّية عبر تقديم روايتها الخاصّة عن المجزرة، بحشدِ ما أمكن من "البراهين"، وتتويجها بما رأت فيه وثيقةً مدعّمة بلمسة "إنسانيّة" يُمكن بها مخاطبة الغرب.
وبثت قناة "روسيا 24" تقريراً مصوّراً يتضمّن لقاءً مع طفل يُدعى حسن دياب، قالت أنه عايشَ لحظات الهجوم الكيميائي على مدينة دوما في غوطة دمشق يوم 7 نيسان/أبريل الجاري. وشكّل الفيديو مناسبة لوسائل الإعلام الموالية عموماً كي تبدأ بحملة ترويج واسعة، وإعطاء انطباع بأن ما تضمّنه لا يدحض تورط نظام الأسد في المجزرة، بل ينفي حدوثها من أساسه.
وواكبَ هذا النشاط الدعائي تصريحات حَرصَ الإعلام الروسي على إبرازها، نقلاً عن مندوب موسكو الدائم لدى الأمم المتحدة فاسيلي نيبينزيا، والمتحدثة باسم الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، تمهّد لعرض التقرير المصوّر على ممثلي البلدان الأعضاء في مجلس الأمن.
وهنا ينتقل الإعلام من مهمته الطبيعية للعب دور "أمني"، أي أن وسائل الإعلام التابعة للنظام والحليفة له لا تقوم بنقل المعلومات أو الآراء بغض النظر عن كونها متحيزة أم لا، بل تتعدى ذلك نحو خلق الواقع البديل، وتقديم الأدلة لجهات دولية، وهي مهمة غير صحافية بل أمنية - سياسية تتكفل بها جهات أخرى على هذا المستوى من العلاقات الدولية، مثل لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة، ويذكر ذلك باللقاءات الإعلامية التي أجراها النظام مع عائلة الطفل عمران دقنيش لنفي المجازر المرتكبة في حلب العام 2016، أو اللقاءات مع أهالي درعا العامين 2011 و2012 لنفي ارتكاب انتهاكات أدت لاندلاع الثورة السورية حينها.
وما هي إلا ساعات قليلة حتى انتشرت مقابلة الطفل حسن دياب بعدّة لغات أجنبية، فضلاً عن تكثيف بثها عبر المواقع الإلكترونية والصفحات الروسية الموالية للنظام، ويعكس ذلك السعي الحثيث لمخاطبة الرأي العام الغربي ونقل الرواية الجديدة إليه، سواء عن طريق الإعلام الروسي الناطق بالإنكليزية والألمانية والعربية، أو عبر قنوات أخرى كما هو الحال مع قناة "إيسبان تي في" (HispanTV) الإيرانية التي تَبثّ باللغة الإسبانية، ويتوازى ذلك مع حاجة النظام وليس رغبته في التملص من مأزق استعمال الكيماوي بأي طريقة، بعد الضربة الغربية الأخيرة ضده التي شكلت رادعاً ما له، مهما كان نطاقها محدوداً على أرض الواقع.
وكان مثيراً للانتباه بدايةً ذلك التركيز على الطفل "حسن" الذي لم يَذكُر معلومات فعليّة يمكن الركون إليها، في مقابل تحويل سيل هائل من الشهادات الموازية إلى مجرّد لاعب ثانوي. علماً أن اللقاءات التي سبقَت أو تلَتْ هذا المقطع المصوّر خلال الأيام الماضية، وقيل إنها أجريت مع من "شاركوا بتصوير الهجوم"، كان يمكن أن تكون المستند "الأفضل" مما جاء على لسان "حسن" (مِن وجهة نظر موالية) لو أنّ مَنْ أنجز تلك اللقاءات يَعتدُّ بمحتواها، وبما وردَ فيها من معلومات أصلاً، لو أنّ من صنعها يرى فيها دليلاً ذا تأثير!
وخلال اللقاء الذي أجرته قناة "روسيا 24" مع "حسن" ووالده، تحدّث الطفل عن لحظة خروجه من القبو الذي كان يقيم فيه مع أسرته - بلا طعام - وكيف جرى أخذه إلى نقطة طبيّة حيث سُكبَ عليه الماء. فيما أسهَب الأب بالكلام عما وقع "في غيابه" لحظة الحادثة، وبأنه علِم من زوجته ومن بقية الناس بما جرى. وبدا أن الأب قد تهيّب ذكْرَ كلمة "كيماوي" مستبدلاً إياها بكلمة "رِيحِةْ.. ومدري شو وكزا.."!
وسعياً لزيادة الشحن العاطفي، أعدّت وكالة "سبوتنيك" الروسيّة لقاءً من دون فيديو، مع طفل آخر يُدعى مصطفى زعمَت بأنه شَهِد بدوره عملية "الفبركة". لكن مقارنة ما جاء في التقريرين تحيل إلى تناقض صارخ في الرواية الروسية نفسها، فبينما يشير حسن ووالده إلى هرَب الأهالي نتيجة الهلع السائد حينها من الأقبية نحو نقطة طبيّة، يقول مصطفى أن رجالاً من "جيش الإسلام" قاموا بتجميع الأطفال قرب المستشفى، حيث "فُتحت صنابير ماء قوية" عليهم من "صهاريج" قبل أن يتمّ "إدخال العديد من الأطفال لقبو المستشفى". ومع ذلك يشترك التقريران في نقطة تتكرّر يتمّ اللعب عليها بطرق مختلفة، وتتمثّل بالتسويق لفكرة أنّ الأطفال "وقعوا ضحيّة استغلال البراءة عبر توزيع البسكويت"!
ويمكن ملاحظة توزيع الأدوار في الجهود الدعائية لنفي وقوع مجزرة دوما الكيميائية، مع سعي الروس لتقوية حجّتهم بإيلاء الأهمية للسياق الإنساني "المؤثر"، ولعل أكثر من أتقن ذلك هو مراسل قناة "روسيا اليوم" بنسختها الانجليزية، مراد غازدييف، الذي وضع كل ثقله "الإقناعي" خلال تعليقه على الصور واللقاءات، واستند غازدييف إلى بعض المعلومات والمقابلات، لافتاً بشكل خاص إلى أثر الغبار الناجم عن الدمار والذي يتسبب بما يشبه أعراض الربو! لكنّ غازدييف ركّز أكثر على إظهار أهالي دوما بأنهم ضحايا الجوع والصدمة و"جهلهم بما خطّطت له الخوذ البيضاء"، وكأنه يريد القول بطريقة ما أنّ أهالي دوما كان "مغرّراً بهم"؛ ذلك الوصف الذي وسمَ به نظام الأسد المحتجين منذ بدايات الحراك الثوري!
في الأثناء حاول إعلام النظام، بزخم أقل، استكمال الرواية الروسية بتقديمها من زاويتها الأخرى، من خلال شهادات "مُسعِفين" وأطباء أعطى كل منهم إما شهادة أو تقييماً طبيّاً لأعراض الإصابات التي وصلت أيام 6 و7 و8 نيسان الجاري، ليقدّم هذا الإعلام خلاصة عبر هؤلاء بأنّه لم ترِدْ حالات إصابة بسلاح كيميائي حينها، وأنّ ما وقع هو حالات "ضيق تنفّس ناتجة عن الغبار والدخان بفعل الانفجارات". بل إن أحدهم عقّبَ بالقول إنها ربما كانت "التهاب قصبات "!
ومما يسترعي الانتباه في تقرير عرضته قناة "الإخبارية السوريّة" أنها أرادت تدعيم قصّتها عن الكيماوي بمقابلات أخرى غير تلك التي أجرتها مع "عاملين في الشأن الطبي بدوما"، فاستعانت بأحد مسعفي "الهلال الأحمر"؛ المنظمة المعروفة بكونها ذراعاً للنظام، فما كان منه إلا أن قدّم مرافعة هجوميّة حول دَور "المسلحين خلال الأحداث واستباحتهم مراكز الدولة"!.
وضمن الحملة المستمرّة لتشويه صورة منظمة الدفاع المدني السوري "الخوذ البيضاء" أفردت "الإخبارية السوريّة" جانباً للتصويب على هذه المنظمة، وربطها بمجزرة دوما الكيميائية واتهامها بأنها "تختلق الكوارث وتفبرك أحداثاً إعلامية. غير أنّ تناول هذه السرديّة في التقرير لم يقابله ما يثبته أو يرتبط به، فقد أخذت الشهادات منحىً آخر عن مدى كفاءة عناصر "الدفاع المدني" وبأنهم قد "لا يملتكون المؤهلات العلميّة والدراسيّة"! علماً أنها في السابق اتهمت "الخوذ البيضاء" بارتكاب المجازر المماثلة.