المواطنة في "سوريا الأسد": إلى الخدمة العسكرية.. بالسلاسل
الجديد في الصورة، أنها تعقب "مرسوم العفو" الغامض الذي أصدره رئيس النظام بشار الأسد في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، والذي ألغى كافة الدعوات لسحب الاحتياط، قبل إصدار قوائم جديدة للمطلوبين للخدمة العسكرية، لتأتي الصورة وتؤكد انقلاب النظام على مرسوم العفو الوهمي، فيما تساءلت وسائل إعلام موالية عن الجهات التي فرغت المرسوم من مضمونه، محيلين الصورة، وما تمثله، إلى تصرفات مسؤولين لا يعلم بها الأسد شخصياً، بحسب زعمهم.
الصورة التي قيل أنها مسربة من طرف ناشطين، تفتقد في الواقع إلى السرية، لأن النظام هنا يقوم بهذه الممارسات بعلنية وسط الشارع في وضح النهار، من دون خوف من التسريب، بل وكأنه يسعى إليه مع اليقين بوجود كاميرا ما تصور المشهد في عصر السوشيال ميديا. فهو، من جهة، يتصرف بتلقائية، من دون تجميل لطبيعته كما هو الحال في البروباغندا الخاصة به. ومن جهة ثانية، يسعى إلى توجيه رسالة للسوريين في المناطق الموالية، عن عقوبة "العصيان"، في مسألة الخدمة العسكرية تحديداً، المتمثلة في هذا النوع من الإذلال العلني.
وهكذا تبقى الصورة طبيعية، لدى الناشطين الموالين الذين يرون في الشبان ضمنها "عتاة المجرمين" الذين يجب التعامل معهم بحزم لأداء واجبهم "الوطني"، وكذلك الحال بالنسبة إلى الناشطين المعارضين الذين يرون في الصورة تأكيداً على حالة العبودية في سوريا الأسد، وعلى ضرورة عدم تصديق الدعاية الرسمية، التي تدعو إلى "العودة إلى حضن الوطن".
وقالت ناشطون محليون، أن الصورة المتداولة هي لإيقاف عدد من الشبان في منطقة المزة غربي دمشق، عن طريق أحد الحواجز، بغية سوقهم إلى الخدمة العسكرية. فيما أشار آخرون، إلى أن الصورة ملتقطة أمام محكمة ركن الدين بدمشق، لموقوفين بجنايات، في وقت تشهد فيه دمشق ومحافظات أخرى، حملة واسعة للبحث عن المطلوبين للخدمة الإلزامية والاحتياط، ويشمل ذلك من أجروا عمليات "مصالحات وتسوية"، وبالتحديد في حمص وحماة وريف دمشق ودرعا.
والحال أن النظام السوري، بهذه الطريقة من الدعاية غير المباشرة، يحاول بناء حاجز الخوف الذي كسرته الثورة السورية قبل سنوات، عبر التأكيد على قوة النظام في هذه التفاصيل اليومية الصغيرة، لتتم إعادة البلاد إلى حقبة ما قبل العام 2011، بالرهان على حكم البلاد مجدداً بقبضة حديدية مثلما كان عليه الحال خلال ثمانينيات القرن الماضي. ويعني ذلك أن النظام السوري يسعى إلى إعادة تكريس جذوره القمعية بالقول أن الثورة كانت حادثاً عرضياً خارجياً انتهى، وأن المواطنة في سوريا الأسد تقتضي الخضوع التام للقيادة، وإلا كانت هنالك عقوبات وخيمة بالمرصاد.
يضاف إلى ذلك، بحث النظام عن شرعيته المفقودة أمام البيئة المحلية له. فالنظام منذ تأسيسه العام 1970 قام على انقلاب عسكري بقيادة الرئيس السابق حافظ الأسد، وطوال سنوات حكمه كان الجيش هو منبع الشرعية الوحيد للدولة السورية، لكن الثورة السورية العام 2011 أدت إلى شرخ في المؤسسة العسكرية بعد موجة الانشقاقات التي حصلت في الجيش، والتي كانت واسعة مقارنة بالانشقاقات السياسية مثلاً. وبالتالي يصبح ترميم الجيش بأفراد جدد من الشعب، أمراً محورياً لاستعادة السطوة على الشعب نفسه، ضمن حلقة مفرغة تكرر نفسها.
ويجب القول أن الخوف يشكل عنصراً لا يتجزأ من طبيعة الأنظمة الاستبدادية، وتصبح السلطة الأسدية هنا هي مصدر الخوف والحامي منه في الوقت نفسه، لأن شرط الطاعة للنظام ينفي العقوبة. مع الإشارة إلى أن هذا النوع من التهديد الذي يقوم به النظام، يشكل عنصراً ضرورياً لبقائه، كونه يضمن خضوع الشعب. ويمتد هذا العقد الاجتماعي المشوّه، القائم على ثنائية الخوف - الحماية، نحو خلق مصادر خوف خارجية متنوعة، من العدو التقليدي إسرائيل، إلى دول المؤامرة والشر، وصولاً إلى "الإرهاب" الذي تمثله المعارضة.
وبسبب كل تلك الأخطار في الدعاية الرسمية، يصبح تكبيل الشباب السوريين بهذه الطريقة التي تذكر بصور ورسوم تجارة العبيد القديمة في أفريقيا والشرق الأوسط، "مبرراً"، ولو قسراً، في أوساط البيئة المحلية رغم الاستياء العام. وتصبح القسوة أمراً ثانوياً طالما أن الهدف "نبيل"، كتذكير الشباب السوريين بـ"واجبهم المقدس" المتمثل في "القتال ضد الإرهاب"، من أجل "حياة أفضل".
يحيل ذلك إلى أسئلة تداولها البعض في مواقع التواصل تعليقاً على الصورة، من الموالين تحديداً، حول الأسباب وراء رغبة النظام في تجنيد المزيد من السوريين، في وقت يتحدث فيه دبلوماسياً عن "انتصاره" في الحرب السورية، ما ينفي الحاجة إلى تجنيد المزيد من الأفراد، بل يفترض أن يفتح المجال أمام تسريح المجندين القدامى! والجواب على ذلك بسيط، وهو أن مزاعم النظام تلك لا تعني انتهاء الحرب في البلاد تقنياً، مع تشظي البلاد إلى كانتونات ومناطق نفوذ لقوى محلية وأجنبية على حد سواء.
هذا الواقع بالتحديد يفرض على النظام اتخاذ قرارات تعارض رغبة البيئة الحاضنة له، وتعاكس على ما يبدو المراسيم الرئاسية التي تعمل كمخدر أو ممتص للصدمات لا أكثر. ولا يمتلك النظام هنا القدرة على تفسير ذلك بشكل صريح، خوفاً من إثارة استياء أوسع، يفقده الاستقرار الداخلي النسبي في مناطق سيطرته. وبالتالي، لن يجد الإعلام الموالي أجوبة رسمية لملاحظاته عن الصورة مهما نادى بتفسير لظروفها، مع تبريره الموازي للقسوة المطلوبة ضد هذا النوع من "المجرمين".