فارس كفرنبل.. رسائل ما قبل الموت
ورغم ذلك، بقي رائد، في كفرنبل برفقة إبريق الشاي على الحطب في أمسيات تشرين الباردة، وعُوده الذي حاولت فتاوى "داعش" و"النصرة" مراراً إسكات أوتاره، وأصحاب يتسامرون بلهجة "الضيعة" ذات الألفاظ العفوية والاستعارات التي لا تكاد جملة تخلو منها، والتي حملتها لافتاتهم ولوحاتهم ولونتها بمزيج من تلك البقعة الجغرافية الصغيرة، وخاطبت كل السوريين وتعدتهم لتخاطب العالم.
هكذا انتهت حياة رائد الفارس وصديقه حمود جنيد، أو من يعرف في كفرنبل بـ"حمود البراميل"، الشاب الذي وجد نفسه نتيجة مواقفه الداعمة للثورة، مع رائد والشهيد خالد العيسى والمحامي ياسر السليم، برفقة 50 آخرين من أصدقائهم مطاردين من قوات النظام، لمدة عام، ونصب خياماً قرب تلال مشرفة على كفرنبل، كانت مركزاً لمظاهرات ولافتات ولوحات أوصلت للعالم رسالة الثورة السورية.
عادت المجموعة إلى كفرنبل بعد تحريرها أواخر العام 2012 وعادت المظاهرات إلى شوارع مدينة لم تكن معروفة في سوريا سوى بجمال وجوه أهلها وشعرهم الأصفر، وتطوع الآلاف من أبنائها في سلك الشرطة، وتخصصهم في قسم المرور الذي يدر كثيراً من المال من فئة 25 ليرة سورية، حتى حيكت عنهم الكثير من الطرائف.
حمود هو مصور المكتب الإعلامي في كفرنبل، عمل على توثيق قصف مدينته بعد تحريرها وتصوير العديد من الأفلام الوثائقية، لكن علاقته بالقصف كانت أكبر، ربما لشجاعته أو لتهوره في كثير من اللحظات، فهو دائم التواجد في مكان سقوط البراميل المتفجرة، حتى أن بعض إعلاميي كفرنبل حاولوا ذات مرة الوصول إلى مكان سقوط البرميل المتفجر قبل أن يأتي حمود، لكن المفاجأة كانت بخروجه من وسط سحابة الغبار التي خلفها القصف.
حمود وعبد الله السلوم وياسر الموسى ورائد الفارس، وحولهم عدد من الإعلاميين ممن دربّهم رائد وسعى لتأمين فرص عمل لهم في وسائل الإعلام المحلية، وأنشأ راديو "فريش" واستطاع استكمال مشوار كفرنبل التي اختصرت بلوحة ولافتة. حتى اللوحة التي كان أحمد جلل يرسمها هجرت مظاهرات كفرنبل لسبب أو لآخر، بعد سيطرة المتطرفين على مفاصل السلطة في إدلب. وبالتالي كان الراديو لا يشبه بقية الإذاعات المعارضة، ولم يكن المكتب يشابه بقية المكاتب. وكل من جاء إلى كفرنبل أمضى أيامه في المكتب الإعلامي، في جلسات السمر، كان أشبه بمضافة ثورية تستقبل العابرين من هواة الثورة وأصدقائها ممن لم يسمعوا عن كفرنبل إلا بعد الثورة السورية، وعادوا منها وهم يعلمون أن الثورة لن تموت بوجود أولئك الشبان.
حين سيطر تنظيم "داعش" على المدينة، كان راديو "فريش" في طور التأسيس، صدرت الفتوى الرسمية بتحريم الراديو الناطق باللهجة المحلية المحكية في كفرنبل ومحيطها من ريف إدلب الجنوبي وجبل شحشبو، وصولاً إلى معرة النعمان شرقاً ومشارف جبل الزاوية في الشمال، ثم صادر التنظيم معدات الراديو، واختطفوا رائد الفارس ليومين قبل أن يطلقوا سراحه.
صحيح أن كفرنبل كانت يومها تحررت من نظام الأسد، لكنها لم تتحرر من عقليته التي كرسها لعقود ومن السلطة الأمنية، ومن مخبرين كانوا يتسولون الرضى على أبواب الأفرع الأمنية، ليتحولوا في زمن "داعش" إلى مشايخ متعاونين هدفهم "الغيرة على الإسلام"، لم يتمكنوا حينها من إلصاق التهم برائد، فأطلق سراحه بعد يومين، ليحاولوا اغتياله أمام باب منزله بعد نحو شهر.
استطاع رائد الخروج إلى الولايات المتحدة الأميركية، بعد محاولة اغتياله بأشهر للمشاركة في فعاليات أقامها مغتربون سوريون، حمل معه لافتة من لافتات كفرنبل التي كانت ترافقه أينما ذهب، يقدمها كهدايا لأصدقائه المناصرين للثورة السورية من غير السوريين. كانت اللافتة موجهة للرئيس باراك أوباما وتطالبه بالرحيل إذا لم يستطع الإيفاء بقسمه بتحقيق العدالة، وقف رائد أمام البيت الأبيض ورفع اللافتة وسط ذهوله بوجود عشرات من عناصر الشرطة مخصصة لحمايتهم في دولة بعيدة، بينما يواجه عقوبة السجن أو القتل من أبناء جلدته لذات الفعل.
رحلت "داعش" باتجاه الفرات، وسيطرت أختها الصغرى "جبهة النصرة" التي عرفت لاحقاً باسم "تحرير الشام" على كفرنبل، وأرادت فرض وصايتها على رجالات كفرنبل، فصادرت راديو كفرنبل مرة أخرى، واقتحمت مركز "مزايا" النسائي، وأوقفت المظاهرات، ووضعت العبوات الناسفة في أماكن التظاهر. وحاول المحامي ياسر السليم، الذي شكل مع رائد وحسن السلوم أولى خلايا المظاهرات في المدينة، الخروج إلى تركيا، لكنه أمضى شهوراً من دون الحصول على عمل فعاد أدراجه لكفرنبل، ومنها إلى سجن العقاب بعد خطفه من منزله، ورفض رائد وحمود وغيرهم الخروج، لتلاحقهم عربات "تحرير الشام" وتقتنص الفرصة لخطفهم. لم تفلح تلك المحاولات فأردتهم قتلى في ذات الحي الذي تعرض فيه رائد لمحاولة اغتيال مطلع العام 2014.
هجر رائد دراسة الطب البشري وبحث عن ذاته في لبنان، وهجر عمله في المعاملات العقارية مطلع العام 2011 وبحث عن ذاته في الثورة السورية، لكنه لم يستطع أن يهجر ما بناه مع أصدقائه من تراث لذلك فضّل البقاء في كفرنبل وانتظر مصيره المحتوم، عاصر خلال وجوده في لبنان عملية اغتيال رئيس حكومتها رفيق الحريري، مقتل الحريري شكل وعياً رائداً بالقضية وفتح أمامه الأبواب لقراءات معمقة عن النظام السوري. اتهم النظام السوري باغتيال الحريري العام 2005، واتهم النظام بمحاولة اغتياله بعد 10 أعوام. ولو قدر لرائد أن يتكلم بعد موته لما اتهم إلا النظام السوري باغتياله عبر أدوات اختلقها لشق صف الثورة السورية.