عبادة البوط العسكري مجدداً
المبالغة والتهويل في إعلام النظام السوري وصلا إلى حدهما الأعلى بتقبيل البوط العسكري مباشرة على الشاشة، ما شكّل العنوان العريض لحلقة الأحد الماضي من برنامج "استوديو الحدث" على قناة "الإخبارية السورية".
بحفاوة بالغة استضافت الحلقة، في استوديوهات دمشق، الإعلامية والكاتبة التونسية كوثر البشراوي للحديث عن تطورات المنطقة بعد سيطرة المعارضة على مدينة جسر الشغور بمحافظة إدلب مؤخراً، لتكون الحلقة الأخيرة ضمن سلسلة التراجع التي أصابت "الجيش السوري" في شمال البلاد، منذ مطلع نيسان الجاري.
حادثة تقبيل "البوط العسكري" وتقديسه هي النقطة الأبرز في الحلقة الروتينية من البرنامج السياسي اليومي على الشاشة الرسمية، والتي كانت تتويجاً لساعة تلفزيونية من التطنيب والمديح والهجاء على طريقة الممانعة الكلاسيكية. وخلال الحلقة حاولت البشراوي التفوق على كافة منافسيها من محللين وإعلاميين في محور المقاومة، عبر الاندماج في الشخصية الإعلامية التي تتقمصها على الشاشة أمام الجمهور.
وأوضحت البشراوي أنها حصلت على "البوط العسكري المقدس" من أحد الجنود أثناء زيارتها إلى منطقتي صيدنايا ومعلولا في ريف دمشق قبل مدة، وتابعت أثناء تقبيلها واحتضانها "البوط" بحميمية: "هذا كل ما اشتهيته من سوريا، هذا البوط العسكري هو من سيفرض السلام، هذه أغلى هدية في حياتي"!
رمزية "البوط العسكري" تصاعدت تدريجياً منذ سنوات في الفضاء الالكتروني العربي وفي إعلام الممانعة تحديداً. لكنها بلغت ذروتها بعد أحداث الربيع العربي، حتى أن النظام السوري أقام مجسمات وتماثيل ضخمة "للبوط العسكري" في كل من اللاذقية وطرطوس. وتكرس "البوط العسكري" شيئاً فشيئاً كعبادة جديدة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وهو ما بات ملاحظاً اليوم على الشاشات من حين إلى آخر بكل الأذى البصري الذي يحمله المشهد للمشاهد المسكين.
البشراوي تصرّ طوال فترة الحلقة على أنها ليست في الاستوديو لبث الطمأنينة في نفوس الجمهور مثلما طلب منها، بل هي هنا "لرفع معنوياتها من معجزة الصمود السوري في وجه العزو الكوني". ومن هذا المنطلق النبيل استشرست في الهجوم على الأعداء الجدد من "عثمانيين ووهابيين" على حساب المديح والتطنيب التقليديين لزعماء المقاومة وقواتهم العسكرية.
البشراوي تسيّدت الشاشة فغابت المذيعة السورية سناء محمود عن المشهد طوال الحلقة تقريباً، وتقبلت المذيعة المحلية كمية كبيرة من اللوم والدروس الإعلامية والاستهزاء من ضيفتها "الكبيرة"، فيما كان الصمت والارتباك هو رد محمود الخجول أمام سخرية البشراوي الطاغية واستهزائها من نوعية الأسئلة في الحلقة، حتى لو كانت الأسئلة موجهة إلى ضيف آخر عبر الهاتف أو عبر الأقمار الصناعية من بيروت! وحتى عندما اعتذرت البشراوي عن "وقاحتها"، كان اعتذارها صورياً.
المشهد الأكثر غرابة وسوريالية من تقبيل "البوط العسكري"، قدمته البشراوي بمعاتبة الإعلام السوري الرسمي على "مبالغته" في تغطية أحداث جسر الشغور الأخيرة، فما حدث لا يستحق كل هذه الضجة بل هو أمر تكرر كثيراً في السنوات الماضية، وستعود المدينة إلى قبضة الجيش السوري في أي لحظة كما جرت العادة، على حد تعبيرها. لكن المثير للسخرية هو أن هذا الإعلام الذي يدور حوله الحديث هو الإعلام الرسمي ذاته المنفصل عن الواقع والمقصر دائماً في نقل أخباره الميدانية (ولو من وجهة نظر النظام فقط).
الخصائص السابقة تقليدية، فالضيف المقاوم على الشاشة السورية يبالغ دائماً في إظهار حماسته لكسب مزيد من ود ورضى "البلاط الحاكم". لا تختلف البشراوي في ذلك عن محللين وإعلاميين آخرين، معظمهم من اللبنانيين الممانعين، وإن كانت البشراوي في لقائها الأخير فاقت حدود المنطق بتقديم خطاب هجومي لا يخلو من عنصرية أفصحت عنها مراراً من دون مواربة بحق "أعراب الربع الخالي"، وذلك "رد طبيعي" على طبيعتهم "النازية الجديدة". وبهذا لم تختلف البشراوي كثيراً في الجوهر عن أعدائها المفترضين من ناحية الخطاب.
ردود الأفعال في مواقع التواصل الاجتماعي ركزت بشكل واضح على المفارقة بين صورة البشراوي في السنوات السابقة وصورتها الحالية، فالإعلامية التي اشتهرت بحواراتها الثقافية كمذيعة عبر قنوات "MBC" و"الجزيرة" في السابق، تحولت بشكل دراماتيكي إلى صورتها الحالية على قنوات الممانعة، حتى شكلياً باتت السبحة والخاتم الكبير مع الزي الأسود رمزية جديدة تضاف لأدوات الشخصية التي تتقمصها بصرياً على الشاشة.