النازحات في صوْر: يزرعنَ ويضحكنَ بانتظار انتهاء الحرب

خضر حسان
السبت   2024/08/10
المعرفة المكتسبة في المشروع توفِّر الجهد والمال على المزارعات (علي علوش)
تحمل الحرب الكثير من الانعكاسات السلبية على سكّان المناطق المستَهدَفة بشكل مباشِر. ومع اقتراب الحرب في الجنوب من إكمال عامها الأوّل وتصاعد مؤشرات استمرارها، يقبع المهجَّرون من أبناء القرى الحدودية تحت وطأة النقص المادي والمعنوي، مما يُضعِف قدرتهم على تأمين قوتِهم اليومي، سيّما وأن إيجاد فرصة عمل وسط أزمة اقتصادية عامة، ليس سهلاً.

هذا الواقع يفتح المجال أمام المنظّمات المحلية والدولية لتنفيذ مشاريع دعم تسدّ بعضاً من احتياجات الأفراد والأسر النازحة من قرى الجنوب. وأهم تلك المشاريع، ما تتّصف معالمه بالاستدامة. ويُعَدُّ المشروع الزراعي الذي يُنَفَّذ في مدينة صور، أحد أبرز المشاريع المتعلّقة بدعم النازحين.

بداية المشروع
من السهل إيجاد برامج لتقديم المساعدات العينية أو المادية للنازحين، لكن ليس من اليسير إيجاد برامج تَمكين مستدامة، تساعد النازحات على اكتساب مهارات زراعية. ومن هنا، تكاملت جهود وحدة إدارة الكوارث في اتحاد بلديات صور، مع هيئة الأمم المتحدة للمرأة UN Women ومؤسسة عامل والحركة الزراعية في لبنان والجامعة الأميركية في بيروت، لإنجاز "مشروع تشغيل النساء النازحات في مراكز النزوح في مدينة صور وضواحيها". ومن بين الكثير من الأفكار التي طُرِحَت لمساعدة النازحات، اختمرت فكرة المشروع الزراعي بتمويل من هيئة الأمم المتحدة للمرأة وتنفيذ مؤسسة عامل والحركة الزراعية.

ويشير مسؤول وحدة إدارة الكوارث مرتضى مهنّا، إلى أن فكرة المشروع بدأت من "الحاجة لتمكين النازحات من الإنتاج والإحساس بأنهنّ يستطعن القيام بشيء ما في هذه الظروف لتأمين مصدر دخل وإن ضئيل. ولدينا قطعة أرض تابعة لمهنية صور الرسمية، بمساحة نحو 10 دونمات، فكان السؤال لماذا لا نستغلّها بمشروع إنتاجي، فكان المشروع الذي يستهدف نحو 250 امرأة يجري تدريبهنّ على الزراعة".
علماً أن هذا العدد موزَّع إلى مجموعات تعمل كلّ امرأة فيها لمدة 40 يوماً، ليس بالضرورة أن تكون متواصلة، بل بحسب ما تطلبه إدارة المشروع وفقاً لاحتياجاتها اليومية لليد العاملة. فأحياناً تكون الحاجة 15 إلى 20 امرأة وأحياناً 40 امرأة. لكن كل امرأة تضمن العمل لمدة 40 يوماً، ثم يتم الاستعانة بأخريات.
ويلفت مهنّا النظر في حديث لـ"المدن"، إلى وجود "إقبال كبير على العمل في المشروع وطلبات العمل أكثر بكثير من الحاجة والقدرة على الاستيعاب، ولذلك تم تحديد معايير وأولويات للقبول، منها أن تكون المرأة معيلة لأسرتها، أو لديها حالات اجتماعية وصحية، كحالات إعاقة أو مسنّين... وغير ذلك. ومع أن المشروع مفتوح للنساء من المجتمع المضيف، إلا أن الأولوية للنازحات من القرى الحدودية".

نساء منتجات
يسمح المشروع الزراعي للنساء المشاركات بتخطّي بعضاً من العقبات التي فرضتها عليهنّ الحرب، كازدياد الضغط المادي تحت وطأة فقدانهنّ القدرة على العمل والإنتاج، إذ أن "نحو 95 بالمئة منهنّ كنَّ يعملنَ في الزراعة". والنتائج الإيجابية بدأت تظهر مع انطلاق المشروع، من خلال "تلقّي كل امرأة عاملة 10 دولارات يومياً كبدل عمل إذا كانت تسكن في مراكز الإيواء في مدينة صور، و12 دولار للمرأة التي تسكن في أماكن أبعد"، ذلك أن الأرض الزراعية محاذية لمراكز الإيواء في صور، فيما تغطّي الـ2 دولار أجرة النقل من المراكز الأبعد، وفق ما تؤكّده رئيسة الحركة الزراعية في لبنان، سارة سلوم. 
وتشير سلوم في حديث لـ"المدن"، إلى أن "المحصول الزراعي المُنتَج في المشروع يشكِّل تعويضاً عن المحصول الذي فقدته النسوة وعائلاتهنّ بفعل الحرب. إذ من المفترض بهنّ تأمين مونة العام 2023 التي دمّرتها الحرب. وها هنَّ يتّجهن لتفويت موسم المونة للعام 2024 وربّما تفقد النسوة مونة العام 2025 في حال استمرّت الحرب".

ولا تنحصر فكرة المشروع بتطوير القدرات الزراعية للنازحات، بل الأهم هو "التدريب على الزراعة العضوية بهدف تحسين نوعية الإنتاج والتقليل من كلفته المادية من خلال عدم دفع تكاليف المبيدات الزراعية والأسمدة الكيماوية". وتتعلّم النسوة أيضاً "اختيار زراعة النباتات بجانب بعضها تبعاً لإفادة كل نبتة للأخرى لجهة طردها للحشرات الضارة أو جذبها للحشرات المفيدة على سبيل المثال. فضلاً عن كيفية استعمال تقنيات صديقة للبيئة للحفاظ على خصوبة التربة ورطوبتها، وكيفية ترشيد استعمال المياه وإدارتها، بالإضافة إلى طريقة تأصيل البذور البلدية والابتعاد عن البذور المهجّنة". وباستخدام التقنيات الزراعية يكون المشروع قد قدَّمَ للنسوة المزارعات معرفة مستدامة تنتقل معهنّ إلى القرى بعد الحرب، فيكون المشروع بذلك عبارة عن مدرسة زراعية".

تجربة ناجحة
في الأرض المزروعة وقسمٍ من البناء التابع لمهنية صور، تتابع النسوة تفاصيل المشروع وتراقبنَ نمو المزروعات وكأنّها أطفال بحاجة دائمة للانتباه. ويتجلّى انطباعهنّ الإيجابيّ عن المشروع من خلال تأكيدهنّ على التوجّه نحو الزراعة العضوية وإجراء تبديل بنوعية الزراعة بعد الحرب.
لم تكن نوال سرور النازحة من بلدة عيتا الشعب الحدودية، تدرك أن زراعات تعرفها سابقاً، قادرة على إعالتها بسرعة وسهولة وبجهد أقلّ. وفي حديث لـ"المدن"، تشير سرور التي انخرطت في المشروع، إلى أنها اعتادت زراعة التبغ "لكن تبيَّنَ أن زراعة الملوخية والبندورة والخيار والسمسم وغيرها من المزروعات، أسهل وأسرع ولا تُرهق الجسد كزراعة التبغ التي تستنزف أيام السنة كلها بلا مردود مالي جيّد، بل أحياناً ينتهي الموسم بخسارة". وتجزم سرور أنها ستحمل معها المعرفة التي اكتسبتها في المشروع، إلى قريتها، لتبدأ معها بزيادة الاعتماد على تلك الزراعات. وتأمل أن تجد الجمعيات لاحقاً، طريقها نحو القرى لدعم المشاريع الزراعية، وأن لا تنتهي العملية عند هذا المشروع الذي بدأ في نيسان الماضي ويستمر حتى نيسان 2025، وتجديده مرهون بالتطوّرات العسكرية وبتأمين التمويل.

وفي السياق، تشرح زينب مهدي النازحة من الناقورة إلى منطقة المساكن الشعبية في البرج الشمالي المحاذية لمدينة صور، أنها تحاول عبر المشروع تطوير مهاراتها الزراعية. زينب التي درست تنسيق الحدائق، وجدت في المشروع فرصة لتعلُّم المزيد من الأمور الزراعية التي كانت تجهلها، خصوصاً ما يتعلّق بالزراعة العضوية، فضلاً عن التنعُّم بـ"الراحة النفسية بفعل العمل في الأرض واللقاء مع عدد كبير من النسوة".
وتقول مهدي أن "رؤية الشتول والمزروعات تنمو بعد جهدٍ من زراعتها والاهتمام بها، كفيلٌ بإيجاد الراحة النفسية المفقودة بفعل الحرب". وعن أهمية المشروع من الناحية الزراعية، تقول مهدي لـ"المدن" إلى أن "أهميته تكمن في عدم تقديم النسوة كيدٍ عاملة فقط، بل بجعلهنَّ مزارعات مع خبرة كبيرة في كيفية تطوير زراعة نباتات يعرفونها سابقاً لكنّهم لا يعرفون عنها الكثير ولا يدركون أنها مزروعات قادرة فعلاً على إعالتهنّ. إذ أن أغلب المزارعات يعتمدن زراعة التبغ". أيضاً، تستفيد النسوة هنا من "تعلُّم كيفية التخطيط لمشروع زراعي وتأسيسه وإدارته. وهو أمر ضروري بالنسبة للنساء". ومن الأمور التي كانت تجهلها، رغم معرفتها بالزراعة، "كيفية الاستفادة من بعض أنواع الأشجار والنباتات لتشكيل مبيدات زراعية طبيعية. فمثلاً، تعلمنا كيف ننقع أوراق الزنزلخت والدفلى لنحو 24 ساعة، ثم وضع نحو 2 ليتر من منقوعها مع أقل من برميل من المياه، لرشّها على النباتات بهدف إبعاد الحشرات الضارة. وأيضاً يمكن استعمال رشّ الرماد على النباتات لابعاد الحشرات. وكذلك عرفنا أن التِّبن يمكن رشّه على أوراق النباتات لابعاد الحشرات نظراً لخشونته بالنسبة إليها، مما قد يسبّب جرحها وموتها، فتتجنّبه. كما يساعد وضع التبن على قرب جذوع النباتات في إبقاء التربة رطبة. وكذلك، عَرَفنا أن وضع مياه في جرّة فخّار وغرسها قرب جذع الشجرة أو بين النباتات، يمكنّه توفير الرطوبة". وبتوفير الجهد والمال واستخدام المعلومات والتقنيات المكتسبة في المشروع، تؤكّد مهدي أن "الزراعة بعد انتهاء الحرب ستكون أفضل".