نزيف الاحتياطات مستمرّ: نصف مليار دولار منذ بداية الحرب
مازالت التحوّلات التي طرأت على احتياطات مصرف لبنان خلال الحرب محط أنظار الجهات المتابعة للوضع الاقتصادي اللبناني، نظرًا لاتصالها بمستقبل التوازنات النقديّة والماليّة في البلاد، فضلًا عن تأثيرها على المعالجات المُتاحة للأزمة المصرفيّة.
في المرحلة الأولى التي تلت توسّع الحرب، خلال شهر أيلول الماضي، لم تظهر فورًا تداعيات الأعمال العسكريّة على ميزانيّة مصرف لبنان، ولم تشهد الاحتياطات أي تناقص يُذكر، بل واظبت على تسجيل الارتفاعات المُعتادة منذ صيف العام الماضي. لكن منذ بداية شهر تشرين الأوّل، انقلبت الآية، وانقلبت ميزانيّة المصرف إلى تسجيل انخفاضات متتالية في حجم الاحتياطات المتبقية.
فقدان نصف مليار دولار
بيان الوضع المالي الموجز الذي نشره مصرف لبنان هذا الأسبوع يُظهر أنّ احتياطاته انخفضت خلال النصف الأوّل من الشهر الحالي، من 10.26 مليار دولار في بداية تشرين الثاني، إلى نحو 10.19 مليار دولار في منتصف الشهر، وهو ما عكس تراجعًا بقيمة 66.31 مليون دولار خلال فترة نصف شهر.
وإذا أضفنا هذا التراجع إلى التراجعات السابقة التي طرأت على الاحتياطات خلال شهر تشرين الأوّل، والتي قاربت الـ 437 مليون دولار، يمكن القول أنّ المصرف المركزي خسر نحو نصف مليار دولار من احتياطاته، بين بداية تشرين الأوّل ومنتصف تشرين الثاني، أي خلال فترة شهر ونصف من الحرب. وبذلك، بات من الواضح أن مصرف لبنان خسر خلال تلك الفترة قدرته على مراكمة الاحتياطات وزيادتها، وفق النمط الذي شهدته الميزانيّة منذ رحيل الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة.
ورغم هذه الخسائر المعتبرة في حجم الاحتياطات، ما زال حجمها الإجمالي أعلى من مستواها السابق في نهاية شهر تمّوز 2023، أي عند مغادرة رياض سلامة لمنصبه، والذي بلغ حدود الـ 8.573 مليار دولار. أي بمعنى آخر، لم تؤدِّ الانخفاضات الأخيرة في حجم الاحتياطات إلى محو الزيادات التي جرى تسجيلها في الميزانيّة، بين نهاية تمّوز 2023 وأواخر أيلول 2024. وبشكل عام، مازال حجم الاحتياطات الحالي أعلى بقيمة 1.62 مليار دولار، مقارنة بحجمه في نهاية تمّوز 2023.
التقشّف مستمر
حساب القطاع العام لدى مصرف لبنان شهد ارتفاعًا لافتًا للنظر، إذ زاد رصيده من 5.87 مليار دولار في بداية شهر تشرين الثاني، إلى 6.02 مليار دولار في منتصف الشهر، وهو ما عكس زيادة بقيمة 149.24 مليون دولار خلال النصف الأوّل من الشهر الحالي. وبذلك، كان من الواضح أنّ وزارة الماليّة -وبالتعاون مع مصرف لبنان- انتهجت خلال تلك الفترة سياسة التقشّف المعتادة نفسها، القائمة على مراكمة الإيرادات العامّة في حسابات الدولة لدى المصرف المركزي، والامتناع عن صرفها. وتجدر الإشارة إلى أنّ وزير الماليّة يوسف الخليل نفسه أكّد أن ماليّة الدولة العامّة سجّلت فائضًا بقيمة 600 مليون دولار خلال الأشهر العشرة الأولى من السنة، كنتيجة لهذه السياسة.
في جميع الحالات، ما يمكن استنتاجه من هذه الأرقام هو أنّ التراجع الأخير في احتياطات المصرف المركزي لم يرتبط خلال شهر تشرين الثاني بأي إنفاق عام. بل يمكن ربطه أوّلًا بالدفعة الاستثنائيّة الإضافيّة التي منحها مصرف لبنان للمودعين في بداية الشهر، والتي تحمّل كلفتها من احتياطاته، بخلاف الدفعة الشهريّة العاديّة التي يتقاسم كلفتها مع المصارف التجاريّة. وقد يرتبط جزء آخر من هذا التراجع بعمليّات المصرف المركزي في سوق القطع، والتي تهدف إلى الحفاظ على سعر الصرف الثابت بمعزل عن توازنات العرض والطلب.
وبمعزل عن سبب التراجع، من الأكيد أن الماليّة العامّة تحمّلت خلال شهر تشرين الثاني -تمامًا كما جرى منذ رحيل رياض سلامة- كلفة بعض الأولويّات النقديّة. إذ مازالت عمليّة احتجاز الإيرادات العامّة في مصرف لبنان تُستعمل لامتصاص فائض السيولة بالليرة والدولار من السوق، لخدمة أهداف السياسة النقديّة وضبط سعر الصرف.
سائر بنود الميزانيّة
حجم السيولة المتداولة بالليرة اللبنانيّة خارج مصرف لبنان سجّل انخفاضًا من 50.72 ترليون ليرة لبنانيّة في بداية شهر تشرين الثاني، إلى نحو 49.93 ترليون ليرة لبنانيّة في منتصف الشهر. وبهذا المعنى، تمكّن مصرف لبنان من الاستمرار في ضبط حجم الكتلة النقديّة بالعملة المحليّة، التي تؤثّر بشكل حاسم على التوازنات في سوق القطع. وبالتالي، من غير المتوقّع على المدى القصير أن تشهد سوق القطع أي تقلّبات تمس بقيمة العملة المحليّة، طالما أن مصرف لبنان مازال متحكمًا بالمعروض النقدي من الليرة اللبنانيّة. وفي المقابل، يؤكّد هذا المؤشّر أنّ مصرف لبنان مازال يوظّف السياسة الماليّة التقشفيّة لخدمة أهدافها النقديّة، من خلال امتصاص السيولة بالليرة، عبر الإيرادات الضريبيّة التي تجبيها الحكومة.
أمّا قيمة مخزون الذهب الموجود بحوزة مصرف لبنان، فشهدت تراجعًا ملحوظًا من 25.62 مليار دولار في بداية تشرين الثاني، إلى 23.66 في منتصف الشهر نفسه. ومن المعلوم أن مصرف لبنان يعيد تقويم قيمة هذا المخزون، بناءً على أسعار الذهب العالميّة، على نحوٍ نصف شهري. وبذلك، يعكس انخفاض قيمة هذا المخزون تراجع الأسعار العالميّة، من دون أن يرتبط بأي عوامل داخليّة تُذكر.
في النتيجة، وبعد مرور نحو شهرين على توسّع الحرب الإسرائيليّة على لبنان، صار بالإمكان القول أنّ الحرب تركت آثارها بشكلٍ واضح جدًا على أرقام المصرف المركزي. وفي الوقت نفسه، مازالت أرقام المصرف تعكس تقاعس الحكومة عن التعامل مع تداعيات الحرب نفسها، من خلال التشدّد في استعمال الإيرادات العامّة، ومراكمة هذه الإيرادات لدى مصرف لبنان، عوضًا عن استعمالها لتمويل خطّة الطوارئ التي لم يتم تنفيذها بالفعل.