قرارات أمين سلام بالدولرة تُنتج تضخّماً قياسياً غير مسبوق
شهران بالتمام والكمال مرّا منذ أن انجرّ وزير الاقتصاد أمين سلام خلف ضغوط نقابتي مستوردي المواد الغذائيّة وأصحاب محال السوبر ماركت، ليصدر القرارات التي فتحت المجال أمام دولرة الأسعار في السوق الاستهلاكيّة، في بداية شهر آذار الماضي. يومها، حذّرت جمعيّة حماية المستهلك من تبعات هذا القرار على أسعار السوق، بينما أصّر الوزير أنّ قراره، الذي سوّقته إعلاميًّا -وبكثير من الحماس- لوبيات التجّار والمستوردين، هو الحلّ الأمثل لضبط الأسعار والسيطرة عليها وحماية المستهلكين.
بعد نحو شهرين من دخول القرار حيّز التنفيذ، جاءت أرقام مؤشّر أسعار المستهلك، التي تنشرها دوريًا إدارة الإحصاء المركزي، لتؤكّد المعروف والمؤكّد: لقد أطلق أمين سلام دوّامة أكبر تضخّم في الأسعار منذ بدء الانهيار المالي، ما رفع مؤشّر الأسعار بنسب ومستويات تفوق تلك التي شهدها خلال السنوات الماضية، بفعل تدهور قيمة سعر صرف الليرة.
وبصورة أوضح، لم يعد ارتفاع الأسعار يعبّر فقط عن تزايد كلفة الاستيراد، بفعل تدهور سعر صرف الليرة، كما كان الحال سابقًا. بل بات التضخّم يعكس –فوق ذلك- كلفة أرباح التجّار بالدولار النقدي، بعد دولرة الأسعار في المحال التجاريّة. كما بات يعكس تفلّت السوق وجشع المؤسسات التجاريّة، التي انتقلت إلى زيادة أسعارها من دون أي مبرّر، وبالدولار النقدي هذه المرّة.
أرقام التضخّم
ما تظهره أرقام مؤشّر أسعار المستهلك هو التالي: بحلول شهر آذار الماضي، ومع دخول قرار دولرة الأسعار حيّز التنفيذ، ارتفعت نسبة الزيادة السنويّة في المؤشّر العام إلى 263.84%، مقارنة ب208.13% خلال العام الماضي، و157.86% خلال العام 2021، و17.46% خلال العام 2020. وبذلك، كانت نسبة ارتفاع الأسعار أقسى وأعلى من جميع نسب الارتفاع التي شهدها السوق اللبناني خلال السنوات الماضية، منذ حصول الانهيار المالي عام 2019.
الدخول في تفاصيل الزيادة في أسعار كل صنف من أصناف السلع الاستهلاكيّة، سرعان ما يؤكّد اتصال هذه التطوّرات بمسألة دولرة أسعار المحلّات التجاريّة. فأسعار المأكولات والمشروبات الروحيّة بالتحديد، هي ما دفع باتجاه زيادة المؤشّر العام، بعدما ارتفعت أسعارها في السوق بنسبة 352.34%. كما لعبت الدور نفسه أسعار التبغ والمشروبات الكحوليّة، التي ارتفعت أسعارها بنسبة 450.97%.
أمّا السلع غير المرتبطة بأسعار المحال التجاريّة، فشهدت نسب ارتفاع أقل وطأة، كحال أسعار الخدمات المنزليّة، التي اقتصرت الزيادة فيها على نسبة 130%، وكذلك كلفة الإيجارات التي لم ترتفع إلا بنحو 91.62%، وخدمات المياه والكهرباء والغاز التي شهدت ارتفاعًا أقل بنسبة 211.82%. مع الإشارة إلى أنّ أسعار كثير من هذه الخدمات والسلع كانت مدولرة بالفعل منذ أشهر طويلة، ما جعلها بمنأى عن تأثير قرار دولرة أسعار المحال التجاريّة في شهر آذار.
لا يحتاج الأمر لكثير من التحليل لربط قرار وزير الاقتصاد بما جرى من زيادات في الأسعار خلال شهر آذار. فدولرة الأسعار عنت ببساطة ضمان هامش ربح التجار بالدولار النقدي، بدل إضافته بالليرة على السعر الأساسي. وهذا تحديدًا ما أدى إلى قفزة مفاجئة وغير مدروسة في أسعار محال السوبر ماركت. وهذا أيضًا ما يفسّر حماسة أصحاب المحال التجاريّة والمستوردين لهذا القرار، والذي انعكس في الحملات الإعلاميّة التي قام بها اللوبي الذي يمثّل هذه الفئة. وفي الوقت نفسه، سمحت خطوة سلام بتفلّت الأمور من عقالها، وإطلاق موجة من الارتفاعات غير المبرّرة في أسعار السلع الاستهلاكيّة، بعد أن تمّت دولرة هذه الأسعار، وهو ما ساهم بدوره في رفع معدلات التضخّم على هذا النحو.
أثر الدولار الجمركي والضريبة على القيمة المضافة
كل هذه التطوّرات، تقاطعت منذ أسابيع مع الزيادات المتتالية في سعر صرف الدولار الجمركي والضريبة على القيمة المضافة، والتي بدأت أولًا بزيادتهما لحدود الـ45 ألف ليرة مقابل الدولار في بداية شهر آذار أيضًا. أمّا الإشكاليّة الأساسيّة هنا، فهي أن عموم المواطنين تحمّلوا خلال تلك الفترة أثر زيادة الأسعار، دون أن تتسق كل هذه الخطوات مع خطوات أشمل لتوحيد أسعار الصرف المتعددة، المعمول بها حاليًّا في القطاع المصرفي لتسديد الودائع، ووزارة الماليّة لاحتساب الرسوم والضرائب. مع الإشارة إلى أنّ توحيد أسعار الصرف المتعددة كان أحد شروط التفاهم المبدئي الموقّع منذ أكثر من سنة مع صندوق النقد، من دون أن يتم تنفيذ مندرجاته حتّى اللحظة.
في جميع الحالات، لا يوجد اليوم من يسائل كل من وزيري الاقتصاد والماليّة عن طبيعة القرارات التي جرى اتخاذها خلال الأشهر الماضية، في ظل انشغال البلاد بملفّات سياسيّة أخرى، وعدم وجود حكومة مكتملة الصلاحيّات قادرة على صياغة وتنفيذ خطّة ماليّة منسجمة ومتكاملة. وهذا تحديدًا ما يفتح المجال أمام سياسات إشكاليّة يجري تمريرها على القطعة، من دون أن تصب في أي رؤية تصحيح مالي أو نقدي متكاملة.