تعديلات سريّة المصارف: طبخة كواليس مجلس النوّاب

علي نور الدين
السبت   2022/08/06
التصويت يحصل على صيغ فضفاضة وهمايونيّة للقوانين وصياغتها تتم لاحقا (علي علوش)

يوم انعقدت الهيئة العامّة للتصويت على مجموعة من مشاريع القوانين، ومنها قانون تعديلات سريّة المصارف، خرج الغالبيّة الساحقة من نوّاب الأمّة دون أن يملكوا أجوبة بخصوص الصيغة النهائيّة التي تم التفاهم عليها داخل الجلسة. حالة الهرج والمرج المتعمّد، وتقاذف الأفكار والمقترحات، والاستنسابيّة في طرح تعديلات دون سواها، لم يُفهم منها إلا عبارات "صدّق" التي أطلقها رئيس المجلس النيابي بين الفينة والأخرى، بعد مناقشة كل بند من البنود الخلافيّة المرتبطة بتعديلات سريّة المصارف. وفي أغلب الحالات، لم يفهم النوّاب ما الذي صدّق بخصوص هذه البنود، وأي مقترح من المقترحات البديلة، وعلى أي أساس تم تجاهل بعض المقترحات مقابل طرح مقترحات أخرى. وحتّى بعد انتهاء الجلسة، لم يملك أحد الإجابات الشافية حول هذه الأسئلة، بمن فيهم أعضاء هيئة مكتب المجلس نفسها!

التفاوض بعد التصويت!
وحدهم المخضرمون والعارفون بأساليب عمل رئيس مجلس النوّاب لم يكلفوا أنفسهم عناء السؤال والبحث. لا يوجد صيغة نهائيّة حتّى يُسأل أو يُبحث عنها. في المسائل الحسّاسة، والقوانين التي توازن بين مصالح متضاربة وشائكة، يُفضل رئيس المجلس التصويت على صيغ فضفاضة وهمايونيّة للقوانين، على أن يُترك أمر التفاوض على كيفيّة صياغتها لكواليس مجلس نوّاب وأمانة السر لاحقًا. نصوّت على العموميّات في الهيئة العامّة، ثم نفاوض على العبارات التي غالبًا ما تحدد أهم ما في القانون. الطبخة إذًا، ستكون عند الصياغة، والتصويت مجرّد فولكلور.

هنا، تصبح الكثير من الأمور مفهومة أكثر. يصبح من المفهوم مثلًا، سبب إسكات سعادة الشامي داخل الجلسة، رغم أهميّة ما كان سيقوله بالنظر إلى اتصاله بشروط صندوق النقد، والتي تمثّل السبب الأساسي لإقرار هذا القانون. ففي خلاصة الأمر، ستكون إضافات الشامي جزء من عمليّة التفاوض عند صياغة النص النهائي للقانون، وهذا تحديدًا ما جرى، في حين أن ما يجري داخل الهيئة العامّة لا يتجاوز حدود إقرار الحد الأدنى المطلوب قبل بدء التفاوض. وهنا أيضًا، يصبح من المفهوم السريّة التي أحاطت بعمليّة صياغة القانون لاحقًا، كون ما جرى عمليًّا كان تفاوض لوضع الصيغة النهائيّة، لا مجرّد تدوين للبنود التي تم التصويت عليها داخل الهيئة العامّة.

التذاكي في الصيغة النهائيّة
في خلاصة الأمر، تسرّبت الصيغة النهائيّة من القانون بعد أن تمّت إحالته إلى رئاسة مجلس الوزراء للتوقيع. وبدا واضحًا أن عمليّة الصياغة أدخلت تعديلات لم تتم مناقشتها في الهيئة العامّة، تندرج جميعها في إطار التذاكي على الأهداف التي وضعها صندوق النقد للقانون نفسه، عبر دس عبارات مبهمة وفضفاضة وقابلة للتأويل بأكثر من طريقة. بمعنى آخر، كان من الواضح أن ثمّة تفاوض يجري بين الفريق اللبناني الذي يدير المحادثات مع صندوق النقد، والفريق الذي عمل على صياغة النسخة الأخيرة من مشروع القانون، بهدف وضع صيغة تراعي هواجس الفئة النافذة ماليًّا في البلاد، وتفرغ القانون من مفاعيله قدر الإمكان، دون التصادم بشكل صريح مع شروط الصندوق. أما المفتاح: فهو التلاعب على المفردات، وترك هوامش لفرملة تطبيق القانون لاحقًا، من خلال الصياغات العموميّة غير المفهومة الأبعاد.

تبدأ اللعبة من النص الذي يحدد نطاق الجرائم التي يمكن للقضاء رفع السريّة المصرفيّة عند النظر فيها. الصيغة النهائيّة ربطت نطاق هذه الجرائم بالمادّة 19 من قانون أصول المحاكمات الجزائيّة، والتي تحدد الجرائم التي تقع ضمن صلاحيّات النائب العام المالي علي إبراهيم.
مع الإشارة إلى أنّ هذه المسألة تتعارض مع ما تم الاتفاق عليه في الهيئة العامّة، في الجلسة المسائيّة التي عادت وأقرّت عدم ذكر المادّة 19 بالإسم في الصيغة النهائيّة للقانون. وعلى أي حال، ربط صلاحيّة القضاء برفع السريّة المصرفيّة بجرائم المادّة 19 من قانون أصول المحاكمات الجزائيّة، سيعني هنا إمكانيّة تأويل القانون بما يحصر صلاحيّة رفع السريّة المصرفيّة بالنائب العام المالي علي إبراهيم وحده، طالما أن القانون لم يعدد الجرائم الماليّة بل ربطها بالمادّة التي تحدد صلاحيّات النائب العام المالي.

ولعدم إثارة حفيظة صندوق النقد، أضافت الصيغة النهائيّة إلى نطاق هذه الجرائم كل الجرائم الواردة ضمن قانون مكافحة تبييض الأموال وتمويل الأرهاب، وهي قائمة طويلة من الجرائم الماليّة التي تشمل كل ما يمكن أن يخطر على بال الإنسان. لكنّ الصيغة النهائيّة لم تعدد هذه الجرائم، بل اكتفت بعبارة تذكر المادّة التي تحدد هذه الجرائم في قانون تبييض الأموال. وبهذه العبارة المفرطة بالتذاكي، ستكون الصيغة النهائيّة قد فتحت الباب أمام إكراه القضاء على المرور بهيئة التحقيق الخاصّة لرفع السريّة المصرفيّة عند النظر في هذه الجرائم، لكون قانون تبييض الأموال يلزم القضاء بهذه الآليّة عند النظر في الجرائم المحددة فيه. بمعنى آخر، تركت هذه العبارة الباب مفتوحًا أمام تكريس الوضع الحالي كما هو.

وبعد أن تم التصويت في الهيئة العامّة على إزالة تسمية لجنة الرقابة على المصارف من قائمة الجهات التي تملك رفع السريّة المصرفيّة، عادت الصيغة النهائيّة لتذكرها، ربما خوفًا من استفزاز صندوق النقد الدولي، الذي ربط القانون منذ البداية بصلاحيّات الجهات الرقابيّة في مصرف لبنان. لكن القانون ذكر لجنة الرقابة على المصارف بصيغة فضفاضة تقبل التأويل بأشكال مختلفة، وتسمح للمصارف بالتملّص من إعطاء لجنة الرقابة المعلومات التي تطلبها، من خلال الإشارة إلى عدم حؤول أحكام قانون سريّة المصارف دون "قيام أي إدارة أو أي موظّف من موظفي المصرف المركزي ولجنة الرقابة على المصارف بواجباتهم".

في خلاصة الأمر، جاءت الصيغة النهائيّة لتعديلات السريّة المصرفيّة مليئة بالعبارات المفخّخة، القادرة على تعطيل القانون وإفراغه من مفاعيله الحقيقيّة. هكذا، امتلأت مواد القانون بالمواد القابلة للتفسير بأشكال مختلفة، بما يسمح بادعاء تحقيق شروط صندوق النقد من جهة، وبما يفتح الباب أمام تعطيل تنفيذ القانون لاحقًا من جهة أخرى.
أمّا الطريف في المسار بأسره، فهو المسرحيّة التشريعيّة التي جرت في الهيئة العامّة، والتي أفضت إلى ترك الأبواب مشرّعة أمام التلاعب بمواد القانون على هذا النحو، بدل التصويت عليها بشكل واضح.