الحقيقة بالأرقام: ميزانيات المصارف تكشف آثار الانهيار.. والهندسات!
كان من المفترض أن تكون المصارف المرخّص لها بطرح أسهمها للاكتتاب العام، ملزمة بالإفصاح عن بياناتها الماليّة لكل فصل، في مدّة أقصاها نهاية الشهر الأوّل الذي يلي الفصل المنتهي. لكنّ حاكم مصرف لبنان أصدر مؤخّراً تعميماً أجّل بموجبه مهلة الإفصاح عن البيانات الماليّة للفترة الماضية، اعتباراً من الفصل الثالث من العام الماضي. وهو ما سيسمح للمصارف اللبنانيّة بشراء بعض الوقت قبل الكشف عن حقيقة أرقامها، وبالأخص الأرقام التي تظهر آثار الانهيار في النظام المالي اللبناني منذ شهر تشرين الأوّل الماضي.
في الواقع، يمكن أن يسمح هذا التعميم بتأجيل عرض البيانات، المتعلّقة بكل من تلك المصارف على حدة. لكنّ أرقام الميزانيّات المجمّعة للقطاع ككل، ولغاية نهاية السنة، باتت متاحة للجميع. وعمليّاً، يمكن الكشف عن كثير من تطوّرات القطاع المالي من خلال النظر في تلك الأرقام، وبالأخص من ناحية التدهور الذي شهده هذا القطاع خلال الأشهر الماضية. وأهم ما كشفته هذه الأرقام أيضاً، كان حجم العمليّات الاستثنائيّة والهندسات التي أجراها مصرف لبنان، في سياق التعاطي مع الأزمة القائمة.
ضخامة الهندسات الماليّة تنكشف
لعلّ أبرز التحوّلات التي تلفت النظر في الميزانيّات المجمّعة تكمن في حجم الهبوط الكبير في إجمالي موجودات المصارف اللبنانيّة. فهذه الموجودات انخفضت خلال عام واحد من 249.48 مليار دولار، كما في نهاية كانون الأول 2018، لغاية 216.78 مليار دولار في نهاية كانون الأول الماضيز وبذلك تكون موجودات المصارف اللبنانيّة قد انخفضت بنسبة 13.11 في المئة خلال فترة سنة واحدة فقط.
يمكن اكتشاف لغز هذا الانخفاض سريعاً، عند التدقيق في موجودات القطاع، وبالأخص عند الالتفات إلى مستوى ودائع المصارف لدى مصرف لبنان، والتي انخفضت فجأة بقيمة 37 مليار دولار خلال هذه الفترة. هذه المليارات التي اختفت فجأة من ميزانيّات المصارف، لم تكن سوى الانتفاخ الناتج عن التوظيفات والقروض المتبادلة بين مصرف لبنان والمصارف، والتي جرى خلق معظمها في إطار الهندسات الماليّة، التي قرر المصرف المركزي إجراءها خلال السنوات الماضية. وما حصل من انخفاض في الموجودات لم يكن سوى إزالة لهذا الانتفاخ في الميزانيّات، بعد أن طبّقت المصارف معايير محاسبيّة جديدة، تفرض عدم تضمين الميزانيّات لتوظيفاتها لدى مصرف لبنان التي تقابلها قروض بآجال مطابقة.
هذا الإجراء التقني يتعلّق اليوم بالمصارف، وطريقتها في عرض أرقام موجوداتها، من دون أن يؤثّر على حجم الأرباح الضخمة والفوريّة التي حققتها من هندسات مصرف لبنان. لكنّ أهم ما في الأمر اليوم، هو كشف التغيّرات في الميزانيّات المجمّعة لنطاق هذه العمليّات الكبير، وحجم السيولة الذي امتصّته من الأسواق خلال الفترة السابقة. أمّا السؤال الذي يجب طرحه اليوم، فيتعلّق بجدوى هذه العمليّات الضخمة وكلفتها الباهظة على مصرف لبنان، خصوصاً أنّها لم تمنع حصول الانهيار الذي يشهده القطاع المالي منذ 17 تشرين الأوّل.
التحويلات إلى الخارج تنكشف أيضاً
ثمّة المزيد من المسائل المدهشة في ما تكشفه الميزنيّات المجمّعة للمصارف اللبنانيّة. فعند إثارة الرأي العام اللبناني لمسألة التحويلات إلى الخارج، التي جرت منذ بداية العام 2019، عرضت وسائل الإعلام كتاباً من لجنة الرقابة على المصارف، موجّهاً للنائب العام لدى محكمة التمييز، القاضي غسّان عويدات، ردّاً على استيضاح منه، صرّحت فيه اللجنة أن حجم الأموال المحوّلة إلى المصارف السويسريّة منذ 17 تشرين الأوّل ولغاية 14 كانون الثاني 2020 يعادل حوالى 2.276 مليار دولار فقط. أثارت هذه المراسلات استغراب الكثير من المتابعين، خصوصاً كون استيضاح عويدات ورد اللجنة حصرا متابعة مسألة التحويلات بتلك التي ذهبت إلى المصارف السويسرا دون غيرها! كما حصرها بفترة شهرين بعد 17 تشرين الأوّل، من دون أن تشمل التحويلات التي جرت منذ بداية السنة.
على أي حال، تكشف الميزانيّات المجمّعة ما لم تقم هذه المراسلات بكشفه. فحسب الميزانيّات المجمّعة، يتبيّن أن الودائع لدى المصارف اللبنانيّة شهدت خلال سنة 2019 نزيفاً بقيمة 27 مليار دولار (على شكل سحوبات أو تحويلات). وهي القيمة التي يمكن الحصول عليها من خلال احتساب الانخفاض في قيمة الودائع بعد احتساب قيمة الفوائد التي تراكمت على هذه الودائع.
الـ27 مليار دولار تشكّل عملياً كل ما خسره القطاع المصرفي من ودائع سواء عبر السحب النقدي أو التحويل للخارج. أمّا احتساب ما تمّ تحويله للخارج فقط، فهو مسألة بغاية السهولة. فمجمل النقد المتوفّر ورقيّاً اليوم في لبنان لا يتجاوز الملياري دولار، حسب مقابلة "المدن" مع مدير شركة مكتّف لتحويل الأموال، التي تستحوذ وحدها على نصف سوق شحن الأموال في لبنان. وبالتالي، يمكن الاستنتاج مباشرةً أن قيمة ما تم تحويله إلى الخارج من الودائع المصرفيّة خلال عام 2019 لا يقل عن 25 مليار دولار.
الفارق بين ما ورد في مراسلات عويدات مع لجنة الرقابة على المصارف، وما تكشفه الميزانيّات المجمّعة، فارق ضخم. فبينما يعاني اليوم صغار المودعين في الحصول على الفتات من ودائعهم، وفق سقوف سحب متدنيّة، ثمّة مودعون تمكّنوا خلال عام كامل من تهريب هذا الحجم الضخم من السيولة إلى الخارج، من دون أن يقوم مصرف لبنان خلال هذه الفترة بأي خطوة، أو تدخّل لوقف هذه الظاهرة.
من هم أصحاب هذه المليارات التي خرجت من البلاد خلال عام 2019؟ في جدول نشره الكاتب الاقتصادي محمد زبيب، مسرّب من تقرير للجنة الرقابة على المصارف، يتبيّن أن أصحاب الودائع التي تتجاوز قيمتها المليون دولار أميركي، والذين يمثّلون واحد في المئة من أصحاب الحسابات المصرفيّة في لبنان، إمتلكوا 47 في المئة من قيمة الودائع المصرفيّة سنة 2019. هذه الشريحة النافذة ماليّاً كانت مسؤولة عن 98 في المئة من قيمة هذا الاستنزاف في الودائع المصرفيّة في تلك السنة، من خلال تهريب الودائع من النظام المالي اللبناني. تكفي هذه الأرقام لتحديد الفئات التي مكّنها النظام المالي من النجاة على مشارف الانهيار، والفئات التي تدفع اليوم ثمن هذا الانهيار.
توقّف سحوبات الدولار حتمي
تعتمد المصارف اللبنانيّة على حساباتها لدى المصارف المراسلة في الخارج (القطاع المالي غير المقيم) لشراء الدولارات الورقيّة وشحنها إلى لبنان، لتأمين السحوبات النقديّة لزبائنها. كما تعتمد المصارف على هذه الحسابات لسداد ديونها في الخارج، وإجراء الحوالات لعملائها، خصوصاً بعد تشدد مصرف لبنان في استعمال الاحتياطي المتوفّر لديه من العملة الصعبة.
تبيّن الميزانيّات المجمّعة للمصارف اللبنانيّة أن المصارف اللبنانيّة خسرت خلال عام 2019 ما نسبته 43.56 في المئة من قيمة حساباتها لدى القطاع المالي غير المقيم (أي المصارف المراسلة)، لتستقر قيمة هذه الحسابات عند مستوى الـ 6.77 مليار دولار. مع العلم أن هذه الأرقام تعكس أثر السحوبات النقديّة الكثيفة والمستمرّة منذ 17 تشرين الأوّل ولغاية نهاية كانون الأوّل (فترة شهرين ونصف)، وهو ما لا يُظهر أثر إستمرار هذه الظاهرة خلال شهر كانون الثاني والنصف الأوّل من شهر شباط.
وبذلك، يصبح من الواضح أن استمرار المصارف في توفير السحوبات النقديّة لعملائها بالدولار سيكون مسألة متعذّرة خلال الفترة المقبلة، إلا إذا سمح مصرف لبنان باستعمال الاحتياطي الذي يملكه من العملة الصعبة لهذه الغاية. وهو ما يستبعده الجميع. ولذلك، تمهّد المصارف اليوم للوصول إلى مرحلة توقّف السحب النقدي بالدولار بشكل تام في فروعها، من خلال تخفيض سقف السحوبات بشكل تدريجي، والتقشّف في توفير هذه الدولارات في الفروع.
ضرورة المحاسبة
في المحصّلة، تشير الميزانيّات المجمّعة حتى نهاية السنة الماضية إلى أن الانهيار الحاصل لن يكون مجرّد إضطراب مؤقّت ومحدود، وأن هناك نفقاً طويلاً لن يخرج منه لبنان من دون إعادة هيكلة القطاع المالي اللبناني ومعه بنية الاقتصاد بأسرها. والأهم، تكشف هذه الميزانيّات أن هناك الكثير من الأمور التي جرت قبيل الانهيار، والتي ربّما سرّعت في حصوله، والتي تستدعي التحقيق والمحاسبة، وفي طليعتها مسألة التحويلات التي جرت إلى الخارج من دون أي ضوابط من الجهات الرقابيّة في لبنان. كما ثمّة ما يستدعي المساءلة في طبيعة المعالجات التي جرى اعتمادها خلال الأزمة، وبالأخص العمليّات التي جرت منذ 2016 تحت مسمّى الهندسة الماليّة.