الياس خوري المثقف المتعدّد

بشير البكر
الإثنين   2024/09/23
(علي علوش)
عاش الياس خوري حياة فريدة في الكتابة والثقافة والسياسة، ميزتُها أنها لم تعترف بالحدود. وإلى حين رحيله الأسبوع الماضي، لم يكف عن التعدد بين الكاتب الروائي، والصحافي الثقافي، والأستاذ الجامعي، والحزبي اليساري المعارض، والمناضل الفلسطيني اللبناني السوري. ويعرف الذين عايشوه أنه كان حاضراً في أكثر من مجال في وقت واحد، يتحرك بين حقول عديدة بمهارة وسلاسة، محافظاً على قدر كبير من التوازن، الذي يحترم دور المثقف النزيه، والكاتب صاحب الصلة العضوية بقضايا بيئته وعصره.

نجح خوري في أن يكتب رواية جديدة، ويعترف النقد الأدبي له بأنه صوت ذو خصوصية بين مجايليه في لبنان، والعالم العربي، بفضل التقاط تفاصيل مكانه الخاص، بيئته اللبنانية، وتوسيع مداه إلى المحيط الفلسطيني. وقد اعتبر في أحاديثه إن ذلك هو معنى تجربته كروائي. وهذا ما يفسر سر بقائه داخل هذه المساحة، يعمل على تشييد بنائه الروائي، وصناعة لغته الخاصة، ليكتب سلسلة من الروايات وصلت إلى فئات واسعة من القراء. ومن بين أبرز خصائص منجزه الروائي أنه على صلة مباشرة بالواقع، من دون الوقوع في فخ المباشرة السهل، وتحدث عدة مرات عن شخصيات تطابقت مساراتها في أعماله مع مصائرها في الحياة، وخاصة في رواية "باب الشمس"، التي كرسها لتراجيديا اللجوء الفلسطيني، بالاعتماد على عدد كبير من المقابلات مع شخصيات من جيل النكبة الأولى، هاجرت إلى لبنان.

يعبّر خوري عن ظاهرة المثقف العربي، الذي شغله الشأن العام، وتخبرنا محطات حياته عن رحلة بين العمل الفدائي الفلسطيني في شبابه، والدراسة الأكاديمية والكتابة والصحافة التي كانت نقطة البداية، باندفاع وروحية مرحلة الستينيات، حيث شارك في عمر مبكر لم يتجاوز 24 عاماً، في تجربة مجلة "مواقف" العام 1972، إلى جانب أدونيس وعدد من الكتاب العرب من اتجاهات سياسية متعدّدة، وحدهم هدف مواجهة ثقافة هزيمة العام 1967. وتبقى التجربة المهمة لاحقاً هي رئاسة تحرير مجلة "شؤون فلسطينية" إلى جانب الشاعر محمود درويش ما بين 1975 و1979، وذلك في الوقت الأكثر اشتعالاً من الحرب الأهلية اللبنانية. وفي خضم ذلك، العمل في مركز الأبحاث الفلسطيني، إلى جانب عدد من الباحثين والكتاب، حيث تبلورت، أكثر وبسرعة، نظرة الكاتب والمثقف، إلى القضايا السياسية والوطنية، وانسحب ذلك إلى ما تعيشه منطقة الشرق الأوسط والعالم العربي من قمع واستبداد، وما تواجهه من خطر كبير يتمثل في زحف للاحتلال الإسرائيلي، في وقت كانت فيه بيروت عاصمة عربية تتمتع بهوامش استثنائية، وتشهد حركة ثقافية وسياسية متقدمة بأشواط على محيطها. ورغم ما لحق بها من آثار الحرب الأهلية، بقيت دور النشر تصدر الكتب الجديدة، واستمرت الصحافة في ازدهار لم يسبق لها أن عرفته، وذلك على مستوى اليوميات كالسفير والنهار، والأسبوعيات كالحوادث والاسبوع العربي والصياد.

برز خوري في العمل الصحافي كأبرز الفاعلين في المشهد الثقافي، من خلال العمل مدير تحرير للقسم الثقافي في صحيفة السفير 1983-1990، ومن ثم رئيس تحرير ملحق صحيفة النهار الثقافي 1993 -2009. وفي المكانين ترك بصمة مهمة، لكن ملحق النهار تحول معه إلى منصة ثقافية سياسية نقدية للأوضاع العربية، وقد وفر في هذه الفترة منبراً لكثير من الكتاب والمثقفين السوريين المعارضين للنظام، وذلك بفضل الجرأة التي تحلى بها لاستقبال أقلام ذات نبرة عالية، كانت تبحث عن مساحة من حرية الرأي والتعبير، لم تكن متوافرة في مكان آخر داخل سوريا، أو في الصحافة اللبنانية التي كانت غالبيتها مهادنة للنظام. وتجدر الأمانة الإشارة إلى أن ملحق النهار الثقافي استمر على خط معارضة النظام السوري نفسه، بعدما أشرف عليه الشاعر عقل العويط. وفي كل الأحوال دفعت هذه الصحيفة غالياً مقابل ثباتها على موقفها من حرية التعبير، التي وفرتها للكتاب السوريين، ومن ذلك اغتيال رئيس مجلس ادارتها جبران تويني في كانون الأول 2005.

تجربة خوري في حركة "اليسار الديموقراطي" واحدة من محطاته المهمة، ورغم قصرها، فإنها شكلت علامة فارقة في الحياة السياسية اللبنانية، قبل أن تتراجع بعد اغتيال منظّرها وأحد ابرز قادتها الكاتب والصحافي سمير قصير في حزيران 2005، وأكثر ما ميز تلك الحركة هو أن شعاراتها تركزت من حول حرية لبنان من وصاية النظام السوري، وديموقراطية سوريا وتحرير فلسطين من الاحتلال، وضمن ذات التوجه تميز موقف خوري من أحداث الربيع العربي، التي شهدت تردداً من قبل بعض المثقفين العرب، وله رأي شهير في ذلك قوله "إن دفاع بعض المثقفين عن الديكتاتورية بسبب الخوف من الإسلاميين هو جنون وخطأ كبير، يرتكبه المثقفون وتكرره بعض القوي اليسارية في العالم العربي اليوم". ورغم شراسة الثورة المضادة، وتعثر الربيع، وحرب الإبادة الاسرائيلية على الشعب الفلسطيني، لم يتراجع أو ييأس، وظل يكتب من على فراش المرض طيلة عام عموده الصحفي الأسبوعي، وأنجز رواية لم تعرف طريقها للنشر بعد، وصفها في أحد أحاديثه بأنها إضافة نوعية لنتاجه السابق.