حدّثنا الياس خوري، قال…

أسعد قطّان
الأحد   2024/09/22
كان يقول إنّ علينا، بعد كلّ هزيمة، أن نبدأ من جديد (علي علّوش)
في العام 2005، حلّ الياس خوري محاضراً على المعهد العالي للعلوم في برلين، المعروف باسم الفيسينشافستكولّيغ (Wissenschaftskolleg). كان موضوع الحلقة العلميّة التي احتضنتها المدينة المثقلة بالثقافة هو الأدب المقارن بين العالم العربيّ وأميركا الجنوبيّة. قرأ خوري مقاطع من روايته "مجمع الأسرار"، لكنّ أجواء رائعته "باب الشمس" هي التي خيّمت على مناخ الحلقة الدراسيّة التي دامت يوماً واحداً. ذلك اليوم، خلع خوري ثوب الروائيّ وتجلبب برداء العالم والناقد والمحلّل الأدبيّ. حدّثنا عن أهمّيّة "ألف ليلة وليلة" في التراث العربيّ، وكيف أنّ هذه الحكاية التي لا تنتهي صارت صنو الحياة، وحوّلت القصّ من عمليّة طوليّة إلى عمليّة دائريّة تشبه اللعب الخشبيّة الروسيّة، لكون كلّ حكاية فيها تحيل على حكاية أخرى. وقال خوري إنّ هذه الظاهرة ذاتها نعثر عليها في الأرابيسك والخطّ العربيّ بين أصفهان وفاس، وفي لعبة التقسيم الموسيقيّ على القانون والعود والناي، وفي مطوّلات محمود درويش كقصيدتي "مأساة النرجس ملهاة الفضّة" و"الهدهد".

تتبّعنا أثر هذا كلّه في "باب الشمس" ونحن نتحلّق حوله. لكنّ الروائيّ الذي مات قبل أسبوع أخذنا أيضاً إلى أمكنة أخرى: إلى تجربة أحمد فارس الشدياق التي تختلف جذريّاً عن الرواية البلزاكيّة كما كرّسها الكبير نجيب محفوظ في ثلاثيّته؛ إلى شعر سعيد عقل الذي قال عنه خوري إنّه ساحر اللغة: "مرّ بي يا واعداً وعدا/مثلما النسمة من بردى"؛ وإلى أدب الأخوين رحبانيّ حيث المجاز، في رأيه، يبتلع واقعيّة الواقع مهما حاول هذا الأدب أن يأتي لصيقاً بالواقع.
ولكون الأدب عند الياس يتنزّه على البرزخ الفاصل بين الواقع والمتخيَّل، بين الحدث واللعبة الأدبيّة التي تعيد تشكيل الحدث بألف لون ولون، فإنّ الخوري حدّثنا ذلك اليوم أيضاً عن جدّته البيروتيّة، وكيف كانت تشترط عليه أن يصلّي معها في كتاب الروم الطقسيّ المعروف بالسواعي الكبير، إذا هي قرأت عليه أشعار جدّنا ومعلّمنا الملك الضلّيل امرئ القيس الكنديّ وقصائد المتنبّي، شاعر العرب الأكبر. عن هذه الجدّة قال الياس أيضاً إنّها كانت تشترط على أولادها، يوم عيد الفصح الشرقيّ، أن يأتوا بالفقراء كي يأكلوا من مائدة الفصح أوّلاً، لأنّ الاحتفال بقيامة المسيح لا يستقيم ما لم يأكل أفراد العائلة جميعاً من مائدة سبقهم الفقراء إلى الأكل منها، أي إنّهم يعيّدون القيامة عبر الأكل من فضلات الفقراء. وفي برلين، استذكر خوري كيف أنّ إصرار الجدّة هذا تحوّل إلى معضلة ذات يوم من الحرب الأهليّة، كانت فيه شوارع الأشرفيّة مقفرةً في العيد الكبير. فاضطرّ الوالد إلى استجداء رجلين عثر عليهما بالصدفة في أحد شوارع بيروت متوسّلاً إليهما أن يصطحبهما معه إلى بيته لتناول الطعام، وذلك كي تتمكّن العائلة من الاحتفال بالفصح والأكل من مائدته.

كنّا ننتظر بفارغ الصبر أن نلتقي الياس خوري ثانيةً في الأشرفيّة، في "الجبل الصغير" كما كان يسمّي هذه البقعة من بيروت، كي نناقشه في كلّ النظريّات الأدبيّة التي نثرها في روايته الثلاثيّة "أولاد الغيتو". هناك، كان أوّل من استدخل روايةً في رواية حين كتب حكاية وضّاح اليمن، الشاعر الوسيم الذي مات من فرط الحبّ. وهناك اعتبر أنّ لغة الضادّ كان يجب أن تسمّى لغة العين. وهناك حَسِب أن لا قيمة للكلام عن الواقعيّة في الفنّ، لأنّ الفنّ، مهما فعل، لن يصل إلى اكتناه وجوه الواقع كلّها. هل دفعته كتابة الثلاثيّة إلى تغيير رأيه البرلينيّ عن وجود نوعين من الأدب: نوع أقرب إلى الواقع ونوع يبتلعه المجاز؟ 
من الممكن أن يستمرّ هذا التمرين الأدبيّ إلى ما لا نهاية، بما ينطوي عليه من أسئلة رحل الروائيّ الكبير قبل أن يجيب عنها. لكنّ الخوري، الذي صرف حياته يسبر، في رواياته، غور الثلاثيّة التي هي، في نهاية المطاف، المبرّر الأكبر لإنتاجه الأدبيّ برمّته، أي ثلاثيّة الحياة والحبّ والموت، أخبرنا قبل موته أنّ حياته وحياتنا لم تذهب سدًى؛ لا لأنّ اليونس في "باب الشمس" كان يقول إنّ علينا، بعد كلّ هزيمة، أن نبدأ من جديد، "من الأوّل"، فحسب، بل لأنّنا تعلّمنا أيضاً، من الياس ومعه، أن نقرأ الأدب ونتهجّأ فيه أبجديّة الحياة والحبّ. ومن يقرأ الأدب كي يتعلّم قاموس الحبّ وأبجديّته، أنّى لحياته أن تذهب سدًى.