"تكوين على مهل" لدجو القارح.. الحياة تتجسد في الأنثى

جان هاشم
الأحد   2024/09/22
لا يمكن هنا المرور على الديوان من دون اللفت إلى الأجواء الدينية
يبدو دجو القارح في ديوانه الشعريّ الأوّل، تكوين على مهل[1] متوثّباً، متحاملاً على نفسه، متخبطّاً في أطرافه كطفلٍ يستعد للانطلاق من الحبو إلى الوقوف والسير بثبات في طريق لم يرتسم بعد، قلْ في طرقات يرسمها لنفسه، يحوّم فيها وحولها كفراشة، يريد الوصول، ويعرف إلى أين، وإن لم يتّضح المسار فـ"كل الطرق توصل إلى الطريق". وهو إن كان يرى الولادة في هذا العالم خطأ أو صدفة فإنّما يتقبّلها بالفرح اللازم ليمضي قدماً في صياغة الحياة- الحلم التي لم تُترجم في لغة أو فكرة بعد "لم أنسَ طعم الفرح منذ حينها"، وها يده "تتأمّل فرح كلّ شيء" (...) "في انتظار الربيع".

وفي مجمل قصائد القارح تتجسّد الحياة في الأنثى، المخاطَبَة الطاغية على الديوان حتى الإغراق، ومن دون تصريح بما أو مَنْ هي، المرأة عموماً؟ الحبيبة؟ الأمّ؟ والحقيقة أنّنا نرى الشاعر، عبر الإيحاءات اللامعة في نصوصه، يرى إلى الأنثى، المعبّر عنها بضميرها الطاغي في الديوان، على أنّها ذاك الرمز إلى الحياة، إلى الخلق. هي الأصل والجوهر والإكسير، روح الأشياء، المتقلّصة إلى أصغر نواة، والتي بنقطة منفلشة منها تضفي طعمها ورونقها وألوانها ومعانيها على العالم الأوسع والأرحب، من حارات الطفولة واللعب إلى فضاءات الكون اللامتناهية، وما بينهما الحياة الموعودة والمحلومة، التي يمنّي القارح النفس بالمشاركة في صناعتها، لكي يحقّق الكون توازنه، وتحقّق ذاته االصغرى هذا التوازن المرجو.
تبدو هذه الأنثى عنده من الجنس غير المولود، من صنف الآلهة الجواهر، التي لها القدرة على الفعل تحقيقاً للوعود والآمال،

"لم تولّدي.

أنزلك ملاكٌ نسيمٌ بعد عاصفة وعداً للأرض".

وما هذا الوعد سوى الخلق الجديد الذي يتوخّاه الشاعر ويمنّي النفس بأن يضع إصبعه فيه:

"خلّصت التاريخ ولم تقفي على الأرض.

أنتِ ناطحة الحريّة تكتبين للكون عمراً جديداً".

العمر الجديد، أهو "العهد الجديد"، الوعد بالخلاص، والخلاص بتحقيق الذات وتحقّق الاكتمال؟ ربّما. هذا ما نرى القارح مقبلاً عليه بجدّ، مولِّداً الأمل بحياة جديدة منبعثة من شرنقة الأسر والخدر السلبيّ. إنّه الفراشة، كما يكرّر غير مرّة، الذي تمنحه الحياة-الزهرة رحيقها وهي تعلم أنّه فراشة تمتصّ رحيقها، وهو يعلم أنّ هذه الحياة سيستحقّها يوماً ما، وينتصر فيها يوم تستوي الأمور وتنتظم. وإن كان يعرف أنّ دون ذلك عقبات وصعوبات، وأن الوقت، وقت العمر هذه الأرض قد لا يكفي لتحقيق ذلك:

"أنتِ التي بلا زمنٍ

تعرفين الزمن من عينيه

والوقت الضائع

بين الخلق والنهاية

لا يكفي لإيجادِك"

لكنّه في الولادات المتكرّرة في قصائده، والحيوات المتعدّدة، لا بدّ أن يأتي يومه (أن تحين ساعته) الموعود على لسانها "إلهته" كما في الأناشيد التوراتيّة:

"ستأتي أيّامٌ لكَ أنتَ".

سيبقى نفسُكَ طويلاً".
إنّه الوعد الذي يخلّصه من خفّة العالم، الصادر من الأنثى-الإلهة التي ترسم العالم والكون في تجلّياتها النهائية، هنا تكمن الفكرة النواة أو الحالة (أو فلسفة الوجود؟) التي أراد القارح التعبير عنها:

"إلهتي تحمل كونها

تقف على يدي السماء

وعلى يديها رسوم النهايات

وصور الآلهة التي استسلمت لها".

الصراع الحلو واللون المميّز
وإذ يدرك الشاعر ما دون طموحه من عقبات لا يبدو مصمّما على الصراع بقدر ما هو ناوٍ على السعي الحثيث ومواصلة صياغة كونه من موادّه الخاصّة. ولذلك لا نجد صراعاً بالمعنى الدقيق للكلمة بقدر ما نجد هذا التحدّي والتصميم على المثابرة للتغلب على كلّ عقبة، لأنّ الأمل أو الوعد سيتحقق يوماً ما. ولذلك يتحوّل عنده حقل الصراعات، والفشل أو السقوط، إلى مساحات واسعة من الفرح والحبور والسعادة، والثقة بالنهايات السعيدة.

وهذا الصراع، يعكسه جوّ التعارض أو التناقض في الديوان، ما بين عالم الأرض بفسحاته وزواياه اللامتناهية في الضيق، من الرحم والشَّرنقة والبيت والحارة والمدينة، أو اللامتناهي في الاتساع، القمة والوادي والأرض والأفق الرّحب، وبين العالم الأرحب، الفضاء والسماء بما هي نقيض الأرض أو الوجه المقابل لها، والعاكس لصورتها أحياناً. إنها حركة مكوكيّة بين اللامتناهي في الصغر من اللامتناهي في الكبر، من هذا إلى ذاك ومن ذاك إلى هذا. وفي كلتا الحالتين اكتمالٌ أكيد وتكامل خلاّق. السماء عنده موئل التفاؤل والخلاص والوصول والاكتمال... والحلم.
في هذا السعي الدؤوب لا بدّ للشاعر من رسم طريق له، وهو ما عبّر عنه غير مرّة، بتأكيده التفتيش أو السعي أو تكوين لونٍ خاصّ به يرسم من خلاله عالمه. إنّه التمايز الذي يجعل منه الشخص الفريد من نوعه في عالم كان وما يزال يفتّش عن كماله، "أتمنّى لوناً لي"، "تذكّرت، لا سماء عندي بهذا اللون بعد"، و"ولم يتجرّأ أحد سواي"... "الأولاد يلعبون في غرفة نومي وأنا أنام في الشارع".

ويعرف القارح أنه لا بدّ، في مخاض الولادات المتكرّرة من أوجاع وآلام وفشل، لكنه أبداً مصمّم على المثابرة "أنا تمرين لإله فشل أن يصير إلهاً"  و"كلّي أيّام ولا أجد لحظة".

أجواء طاغية وهواجس
هذه الحالات المسيطرة لا بدّ أن تتمظهر عند الشاعر في حقول دلاليّة متكرّرة، وفيها دوماً عود على بدء، كأنّها الحالة الضاغطة التي لا تترك له مجالاً للإفلات منها. ترد باستمرار على لسان الشاعر، بعفوية صادقة، وهادفة في آنٍ معاً، كونها الصورة الخارجية لعالم داخلي يعتمل في نفسه ويسعى إلى البروز. ففي أرجاء الديوان تنتشر كلمات وعبارات، هي بالأحرى مفاتيح الصور المعبّرة والحالة الشاعرية التي تعصف به، من الزهور إلى الورد والعصفور والطائر والربيع والحارة والبحر والأفق والسماء... وغيرها من المعاني التي تشكّل المادّة المكثّفة التي ينطلق منها الشاعر.

ولا يمكن هنا المرور على الديوان من دون اللفت إلى الأجواء الدينية، لا بل المعين الديني الذي يغرف منه القارح، سواء من أجواء الأناجيل أو من أسفار التوراة وأناشيدها، وليست المطوّلة التي يختم بها الديوان "سيفونيّة النفَس الطويل" المثل الوحيد على ذلك. فهي من دون أدنى شكّ على صورة الأناشيد التوارتيّة في رؤاها وتنبّؤاتها، وتتلاءم مع تطلّعات الشاعر الطامح إلى كلّ ما ذكرنا أعلاه.

قصيدة النثر ما بين الإيحاء والإيقاعات الداخليّة
ما كنت لأكتب عن ديوان بقصيدة النثر، لو أنّي وجدت في شعر دجو القارح ما ينتشر اليوم على وسائل التواصل الاجتماعي من ركام الإسفافات و"البياخة" وهلوسات النصّ الفارغ والشعراء المنقوصين الذين سرعان ما تتحوّل مدوّناتهم دواوين لا طائل تحتها. بالتأكيد هناك في كلّ فنّ مجالات مفتوحة على الغثّ والسمين. وأعتقد أنّ قصيدة النثر، قد رسمت لنفسها من زمان خطّها المعلوم بأصولها وضوابطها، هي الساعية أساساً إلى التفلّت من الأصول والضوابط، وقد تجاوزت وتجاوزنا معها الإشكاليات التي رافقت انتشارها. لكني منذ قرأت للمرة الأولى لدجو القارح، ومنذ سمعته للمرة الأولى أحسست فيه، وبالتأكيد، شاعراً عميقاً ومميَّزاً، ويحمل في ذاته، هو الآتي من عالم الرياضيّات، وفي كتاباته، بذور الشعر في ماهيّته الصافية وجوهره النقيّ. لا يلعب دجو القارح على الكلمات والعبارت لمجرَّد اللعب، وتكاد لا تخلو عبارة عنده من صورة هي وليدة خيال جامح وخلّاق، تندرج في سياق الإطار العام لـ"فكره" أو "حالته".

من تلك العبارات ما نتوقّف عنده لما فيه من جماليّة مؤثّرة ومعبِّرة في آنٍ معاً

"عيناي الحقل والسهل

والتربة العالقة على الأصابع"

أو صورة الحالة النهائيّة الموت في الوردة التي تلحق بصورة الجدّة على الطاولة "... وتكبر الوردة التي زرعتها جدّتي لتلحق بها إلى صورتها على الطاولة".

صور كثيرة في الديوان من هذا النوع، مسوقة بأسلوب قصيدة النثر الحرّ، وإنما في موسيقيّة عفوية أحياناً، ومصنوعة أحياناً أخرى بحسب ما يملي على الشاعر ذوقه او الغنائيّة المطلوبة في النصّ. فهو من البداية يعلن توازنه في موازنة عبارته، عبر إقامة التوازي بين المقاطع الصوتية، ثمّ في متن الديوان الكثير من هذا الموزانات بمختلف أشكالها:

"وقلبي

على راحتي لا ينادي سقوطي

وجسمي

على وحدةٍ جفَّفت سهوتي

فوق جلدي"

هذه وغيرها، إضافة إلى توليد الإيقاعات الداخليّة في موسيقيّة لا تخلو من وقع القافية الداخليّة في العبارت المسجّعة، وذلك في عملية كسر لانسيابيّة النصّ وتحرّره وانفلاته على كلّ تجريب وجديد. وما يلفت القارئ بالتأكيد هو استعمال تلك العبارات المأخوذة من المحكية بطريقة جميلة وفي الموقع المناسب لإضفاء الطبعية والعفوية والمصداقية على النصّ عبر لطافة المحكية عندما نعرف كيف نوظّفها: "حاولتْ تلبس وجهي"، على "قدر عقلها" و"أنتِ غير" و"أحرقت زهرة شبابها".

الإعلان عن الذات
في ديوان دجو القارح الأوّل، نوع من البشارة بما هو آتٍ، أو بما سيأتيه الشاعر ويحلم بتحقيقه. إنه إعلان الذات أو الإعلان عن الذات: "ستأتي أيّام لك أنتَ"، الذات الساعية إلى صياغة العالم كما يحلو له، بالفرح الغامر وبالكماليّة المرجوّة.

[1] . دجو القارح، تكوين على مهل، دار النهضة العربيّة بيروت، 2025، 101 صفحة.