كريم جمال يقدم أم كلثوم لليافعين: تواصلها معهم حتمي
بعد كتابه المهم "أم كلثوم وسنوات المجهود الحربي" الذي وثق فيه رحلات سيدة الغناء العربي وجهودها خلال الفترة التي تلت هزيمة 1967، يعود الكاتب والباحث كريم جمال إلي أم كلثوم مجدداً لكن هذه المرة في تجربة مختلفة وجمهور مغاير، حيث يسجل بالتعاون مع الفنانة سحر عبدالله بالكلمة والصورة رحلة صعودها المذهلة من قريتها "طماي الزهايرة" إلى قمة الهرم الاجتماعي المصري، وتحولها إلى "رمز قومي مقدس" في المخيلة الشعبية المصرية والعربية. حكاية وجد أنه من الواجب عليه روايتها لأجيال بالكاد تعرف اسمها أو دقائق معدودة من مشاورها الفني الطويل والممتد، حتى يتاح لتلك الأجيال الجديدة التعرف على جزء مهم من تاريخ مصر الحديث.
هنا يتحدث كريم جمال لـ"المدن" عن المشروع الجديد بالتفصيل..
- لنتحدث في البداية عن ظروف تأليف الكتاب: متى أتت الفكرة وكم استغرق تنفيذها، وبالطبع الغرض منها؟
* الفكرة في الأساس تعود للناشر خالد لطفي، خصوصاً أن الدار التي يشرف عليها، "تنمية"، كانت لها سابقة في تقديم بعض الأعمال المهمة إلى فئة الأطفال واليافعين، ومن هنا جاءت الفكرة في تقديم سيرة مبسطة للسيدة أم كلثوم تكون بمثابة تعريف بسيط ودرامي لتلك الشخصية، وتقريب حميمي لصوتها عند الجماهير العربية، وتوصيف العرب لها باعتبارها رمزاً فوقياً مقدساً، ليس فقط على مستوى الغناء، لكن على مستوى الوطن ورموزه. من هنا تلاقت أضلع المثلث: النص، والرسوم المتخيلة للشخصية، وإخراج الكتاب في صورة جاذبة للطفل واليافع. وقد استغرق العمل على هذا المشروع عاماً كاملاً، بين الكتابة وتنفيذ الرسوم والعمل على تنسيق الكتاب داخليًا وطرحه ضمن إطار يلفت النظر ويشجع الطفل واليافع على البحث والسؤال عن شخصية أم كلثوم وحياتها.
- الكتاب موجه للأطفال في الأصل، لكن لغته لا تشبه كتب الأطفال، ربما هو للشباب أو الناشئة. سنجد مثلاً كلمات أو مصطلحات ربما كانت تحتاج توضيحاً بالنظر إلى الجمهور المستهدف، من نوع: دور أو طقطوقة أو وَصلة، وأيضاً أحداث سياسية ربما لا تدركها عقول الأطفال.
* هذا حقيقي فعلاً، الكتابة للطفل واليافع عملية صعبة، خلافاً للمتوقع، تخلي الكاتب عن لغته واستعارة لغة بديلة عملية صعبة ومقلقة، لكن السياق العام للكتاب يضع اللفظ المستخدم داخل تركيبة لغوية توضح للقارئ المعني المقصود. بمعنى: عند استخدام مصطلح مثل "طقطوقة" يقرأ الطفل واليافع تفاصيل الأغنية وظروفها، مما يوصل له معنى المصطلح من دون الدخول في دوامة الشرح المتخصص، الذي ربما لا يضيف له شيئاً في هذه المرحلة العمرية، بل يمكن أن يترك داخله الرغبة في معرفة المصطلح بشكل أعمق في ما بعد. كما أن عملية الشرح التتابعية قد تضع القارئ في فهم التطورات السياسية من خلال تفاعل أم كلثوم مع الأحداث، من دون توضيح مفرط للظرف السياسي، لأن هذا قد يخرج العمل من هدفه الأساسي، وربما يعيق عملية التواصل مع النص ويفقده غايته. فكان القرار هو تثبيت المصطلحات والأحداث التي لا غنى عنها، لكن مع وضعها داخل بناء سردي يدعم المصطلح والظرف ويشرحه تلقائيًا للقارئ.
- هل كانت في ذهنك سن معينة وقت التأليف؟ وما الفارق الذي وجدته بين التأليف للكبار والناشئة؟
* طبعًا، كان هذا أول سؤال أطرحه على مجموعة العمل في الاجتماع الأول، تحديد السن كان الأساس الذي قامت عليه لغة الكتاب وهدف كتابته، فالفئة يافعة جداً، وربما تكون غير قادرة على استساغة تلك النصوص في مرحلة مبكرة، وتحتاج إلى كتب أبسط وأخف. لكن كان التوافق على استهداف فئة اليافعين، تحديداً من سن 10 حتى 16 عاماً، وهي الفئة التي قد تكون على وعي أولي بشخصية أم كلثوم المطربة، لكنها لا تعرف عنها ولا عن حياتها شيئاً، وبالطبع هناك إشارات تاريخية في النصوص المدرسية ربما تكون مفتاحاً لفهم أكبر للكتاب. فاليافع في تلك المرحلة يكون درس في الدراسات الاجتماعية سطوراً قليلة من تاريخ مصر، وعرف على الأقل ثورة 1919، وثورة يوليو 1952، وهو ما سيجعله متجاوباً مع النص وأحداثه.
ويبقى طبعًا فارق جوهري بين الكتابة للطفل والكتابة للكبار، فالكاتب له مدارك تلقائية للكتابة، ولغة مستقرة في وعيه، وعملية الإحلال والإبدال تلك تحتاج إلى تركيز شديد، ورغبة في استعارة صوت طفل أو ناشئ، وهي عملية صعبة وتحتاج إلى مراجعة من متخصصين في أدب الطفل، حتى لا يقع الكاتب في شِرك لغته، وهذا ما وفرته "تنمية" من بداية العمل.
- المحطات المهمة كثيرة جداً في حياة شخصية مؤثرة كأم كلثوم، كيف كان الاختيار وعلى أي أساس؟
* هناك محطات لا غنى عنها، الانتقال للقاهرة، تعرفها على رامي والقصبجي، افتتاح الإذاعة، قيام الثورة، والنكسة، ثم الرحيل الحزين... لكن عند الكتابة، كان لا بد من إيجاد خط درامي يمكن من خلاله توظيف كل تلك الأحداث الكبرى في حياة أم كلثوم، مع المحيط السياسي في مصر. ومع البحث، وجدت أنه ربما يكون ذلك الخط هو خط البداية، أم كلثوم الفلاحة البسيطة التي صعدت إلى قمة الهرم الاجتماعي، في مجتمع ذكوري ما زال وعيه الثقافي والفني يتشكل ببطء. ذلك الخط ربما يكون الأكثر إلهامًا في حياة أم كلثوم الشخصية، بعيدًا من فنها. لذا حاولت جاهدًا توظيف كل تلك المحطات التاريخية في مصر على مدار خمسين عامًا، من خلال قصة صعودها الاجتماعي والفني، وارتباط ذلك بملَكات أم كلثوم الشخصية في التجاوب مع الواقع المحيط بها، وتغيره أحيانًا.
- هل فكرت في التعريف الموسع بالمحيطين بأم كلثوم، ممن ورد ذكرهم في الكتاب وكانت لهم أدوار مهمة ومحورية في حياتها أو في الحياة الفنية والثقافية المصرية بشكل عام؟
* النص في الأساس عن أم كلثوم، والمساحة المطلوبة كانت محدودة وليست واسعة للاسترسال، ومن هنا كان واجب التعريف السريع بكل شخصية عاشت على هامش فنّ أم كلثوم، أو دارت في فلك نتاجها الغنائي، من دون الدخول في مساحات قد تطيل النص وتحوله إلى سيرة تاريخية موسعة.
- كان كتابك السابق حافلاً بالمصادر، أملاً في أن يصير وثيقة تاريخية لتلك المرحلة المهمة. لماذا غابت عن هذا الكتاب؟
* ببساطة لأن الأهداف مختلفة، الكتاب الأول كان محاولة رصد وصيانة مرحلة غائبة في حياة أم كلثوم، تقديم سردية واضحة عن سنوات لم يُكتب عنها إلا سريعًا في مقالات أو سطور في كتب، فأم كلثوم وسنوات المجهود الحربي ليست فقط سيرة مقتطعة من حياة أم كلثوم، لكنها كانت سيرة مصر بعد النكسة، وربما صورة بانورامية واسعة للشعوب العربية التي تفاعلت مع دور "الست" الاجتماعي والوطني. لذا فمتطلبات العمل التاريخي تفرض على الكاتب أن يخضع لمعايير كتابة التاريخ ودراساته. أما هنا قالحال مختلف، كان الهدف تقديم رواية بسيطة لحياة أم كلثوم، من دون اللجوء إلى فكرة المصادر، نموذج أقرب إلى الرواية المختلط بها الخيال الأدبي مع الحقيقية التاريخية، فقط من أجل توضيح المعنى والصورة العامة. وبالمناسبة، فكرت أكثر من مرة في وضع لائحة مصادر، لكني شعرت أن هذا قد يعيق القارئ الناشئ، ويترك داخله انطباع السيرة البحثية، لا السيرة الحميمية التي تقرب الشخصية منه بلا تعقيد.
- إلى أي حد ترى أن هذه المبادرات قادرة على خلق جمهور جديد لأم كلثوم، بين من لا يعرفون ربما حتى اسمها في ظل تطور موسيقي متلاحق، بعيد تماماً من المنطقة الفنية التي أتت منها وأبدعت فيها؟ أم أنك تطمح إلى تخليدها كقيمة فنية، كتاريخ، وأثر ودليل على عصر ولّى وانتهى؟
* أنا من المؤمنين أن تواصُل أم كلثوم مع الأجيال الجديدة هو أمر حتمي، قد يستغرق الموضوع وقتًا، لكن عند مرحلة عمرية معينة يلفت صوتها وأغانيها أذهان الشباب واليافعين، وعلى المستوى القريب مني ألاحظ دائمًا مراهقين تجذبهم مقاطع من أغاني أم كلثوم، مقاطع صغيرة أو قصيرة، لكنها قد تصبح مفتاحًا سماعيًا لتقريب طربها إليهم. فعلى سبيل المثال، من فترة قريبة استُدعيت أغنية "في نور محياك الهني" كتريند في مواقع التواصل الاجتماعي، بعد إضافة مؤثرات سمعية وبعض التوزيع الجديد، ولاقت تلك الأغنية رواجًا واسعًا بين الشباب تحت سن 18 عامًا، رغم أن الأغنية قدمت في فيلم "سلامة" العام 1945، وكانت غير رائجة في الإذاعة والتلفزيون. لكن الأجيال الجديدة تفاعلت معها ومع كلماتها، ومع اللحن الكلاسيكي الشرقي الذي وضعه زكريا أحمد، وهنا تأتي ضرورة تقديم الأعمال القديمة داخل صيغة مقبولة من جميع الأطراف، تخاطب الأجيال الجديدة بلغتها وبإيقاعها، ولا تعتدي على النص الأصلي وتشوهه. لكن اللافت للنظر أن أم كلثوم تحديدًا هي أقدم الأصوات العربية المسموعة بغزارة إلى اليوم، رغم أننا على أعتاب الذكرى الخمسين لوفاتها، وهو ما يؤكد أننا أمام قيمة إعجازية بكل المقاييس. فبعد وفاتها توالت خمسة أجيال، وما زال صوتها محط إعجاب ونقاش واحتفاء، وهذا ما يؤكد قيمتها الفنية، وأنها كانت صنيعة مصرية تمامًا، استمدت نجاحها من عوامل ثابتة في الشخصية المصرية، وهو ما يدعم حضورها الدائم والمتجدّد.
- هل يعني هذا أنك لا تخشى أن تُنسى أم كلثوم في المقبل من الأيام بالقياس إلى التطور الكبير الحاصل في الأوساط الموسيقية حالياً؟ وما السبيل للحفاظ على تواجدها في وجهة نظرك؟
* في الذكرى الأول لوفاتها، ألقى أحمد رامي قصيدته البديعة في رثائها، وقال فيها بيتًا ربما تنبأ فيه بمستقبل صوت أم كلثوم بعد غيابها: "يا من أسيتم عليها بعد غيبتها/ لا تجزعوا فإن لها ذكر سيبقيها". والحقيقة أن رامي كان محقًا تمامًا في بيته، صوت أم كلثوم من المستحيل أن يغيب، حتى وإن تراجعت الشعبية مع اختلاف الأجيال وتبدّل الثقافات، يبقى الفن قادراً على التواصل والاشتباك، وأحيانًا يمنحه القِدَم براءة الخلود. فالفنون الموسيقية بشكلها العام تطورت، وتجاوزت المدارس النهضوية المعروفة، لكن باخ وبيتهوفن وتشايكوفسكي استمروا كرموز عالمية ورواد الصناعة. وفي كل بلد في العالم، تقام في قاعات الموسيقى والأوبرات العالمية مهرجانات موسيقية لهم، وكذلك الفنون التشكيلية رغم تعدّد المدارس والاتجاهات، بقي الفن اليوناني وفن المصريين القدماء نماذج لحضارة الإنسان ودليلاً على تجربته الحضارية. وأنا متأكد من أنه، مع الوقت، سيعاد تشكيل واقع جديد مع أغاني أم كلثوم، وتطوير الأغاني بتوزيعات وتنويعات موسيقية، تمنح ذلك المنتج الفنّي المذهل قدرات التواصل مع الأجيال والثقافات الجديدة، لأن أغاني أم كلثوم ببساطة تمتلك ذلك المدخل التطويري، لكن ذلك مرتبط بالطبع بوجود النية والرغبة في إحداث التطوير، والأهم قبوله عند مستمعيها الكلاسيكيين
(**) كريم جمال
كاتب وباحث موسيقي، من مواليد الإسكندرية 1992، درس الموسيقى العربية أكاديمياً، وصدر له كتاب "أم كلثوم وسنوات المجهود الحربي" الحائز على جائزة الدولة التشجيعية.
- لنتحدث في البداية عن ظروف تأليف الكتاب: متى أتت الفكرة وكم استغرق تنفيذها، وبالطبع الغرض منها؟
* الفكرة في الأساس تعود للناشر خالد لطفي، خصوصاً أن الدار التي يشرف عليها، "تنمية"، كانت لها سابقة في تقديم بعض الأعمال المهمة إلى فئة الأطفال واليافعين، ومن هنا جاءت الفكرة في تقديم سيرة مبسطة للسيدة أم كلثوم تكون بمثابة تعريف بسيط ودرامي لتلك الشخصية، وتقريب حميمي لصوتها عند الجماهير العربية، وتوصيف العرب لها باعتبارها رمزاً فوقياً مقدساً، ليس فقط على مستوى الغناء، لكن على مستوى الوطن ورموزه. من هنا تلاقت أضلع المثلث: النص، والرسوم المتخيلة للشخصية، وإخراج الكتاب في صورة جاذبة للطفل واليافع. وقد استغرق العمل على هذا المشروع عاماً كاملاً، بين الكتابة وتنفيذ الرسوم والعمل على تنسيق الكتاب داخليًا وطرحه ضمن إطار يلفت النظر ويشجع الطفل واليافع على البحث والسؤال عن شخصية أم كلثوم وحياتها.
- الكتاب موجه للأطفال في الأصل، لكن لغته لا تشبه كتب الأطفال، ربما هو للشباب أو الناشئة. سنجد مثلاً كلمات أو مصطلحات ربما كانت تحتاج توضيحاً بالنظر إلى الجمهور المستهدف، من نوع: دور أو طقطوقة أو وَصلة، وأيضاً أحداث سياسية ربما لا تدركها عقول الأطفال.
* هذا حقيقي فعلاً، الكتابة للطفل واليافع عملية صعبة، خلافاً للمتوقع، تخلي الكاتب عن لغته واستعارة لغة بديلة عملية صعبة ومقلقة، لكن السياق العام للكتاب يضع اللفظ المستخدم داخل تركيبة لغوية توضح للقارئ المعني المقصود. بمعنى: عند استخدام مصطلح مثل "طقطوقة" يقرأ الطفل واليافع تفاصيل الأغنية وظروفها، مما يوصل له معنى المصطلح من دون الدخول في دوامة الشرح المتخصص، الذي ربما لا يضيف له شيئاً في هذه المرحلة العمرية، بل يمكن أن يترك داخله الرغبة في معرفة المصطلح بشكل أعمق في ما بعد. كما أن عملية الشرح التتابعية قد تضع القارئ في فهم التطورات السياسية من خلال تفاعل أم كلثوم مع الأحداث، من دون توضيح مفرط للظرف السياسي، لأن هذا قد يخرج العمل من هدفه الأساسي، وربما يعيق عملية التواصل مع النص ويفقده غايته. فكان القرار هو تثبيت المصطلحات والأحداث التي لا غنى عنها، لكن مع وضعها داخل بناء سردي يدعم المصطلح والظرف ويشرحه تلقائيًا للقارئ.
- هل كانت في ذهنك سن معينة وقت التأليف؟ وما الفارق الذي وجدته بين التأليف للكبار والناشئة؟
* طبعًا، كان هذا أول سؤال أطرحه على مجموعة العمل في الاجتماع الأول، تحديد السن كان الأساس الذي قامت عليه لغة الكتاب وهدف كتابته، فالفئة يافعة جداً، وربما تكون غير قادرة على استساغة تلك النصوص في مرحلة مبكرة، وتحتاج إلى كتب أبسط وأخف. لكن كان التوافق على استهداف فئة اليافعين، تحديداً من سن 10 حتى 16 عاماً، وهي الفئة التي قد تكون على وعي أولي بشخصية أم كلثوم المطربة، لكنها لا تعرف عنها ولا عن حياتها شيئاً، وبالطبع هناك إشارات تاريخية في النصوص المدرسية ربما تكون مفتاحاً لفهم أكبر للكتاب. فاليافع في تلك المرحلة يكون درس في الدراسات الاجتماعية سطوراً قليلة من تاريخ مصر، وعرف على الأقل ثورة 1919، وثورة يوليو 1952، وهو ما سيجعله متجاوباً مع النص وأحداثه.
ويبقى طبعًا فارق جوهري بين الكتابة للطفل والكتابة للكبار، فالكاتب له مدارك تلقائية للكتابة، ولغة مستقرة في وعيه، وعملية الإحلال والإبدال تلك تحتاج إلى تركيز شديد، ورغبة في استعارة صوت طفل أو ناشئ، وهي عملية صعبة وتحتاج إلى مراجعة من متخصصين في أدب الطفل، حتى لا يقع الكاتب في شِرك لغته، وهذا ما وفرته "تنمية" من بداية العمل.
- المحطات المهمة كثيرة جداً في حياة شخصية مؤثرة كأم كلثوم، كيف كان الاختيار وعلى أي أساس؟
* هناك محطات لا غنى عنها، الانتقال للقاهرة، تعرفها على رامي والقصبجي، افتتاح الإذاعة، قيام الثورة، والنكسة، ثم الرحيل الحزين... لكن عند الكتابة، كان لا بد من إيجاد خط درامي يمكن من خلاله توظيف كل تلك الأحداث الكبرى في حياة أم كلثوم، مع المحيط السياسي في مصر. ومع البحث، وجدت أنه ربما يكون ذلك الخط هو خط البداية، أم كلثوم الفلاحة البسيطة التي صعدت إلى قمة الهرم الاجتماعي، في مجتمع ذكوري ما زال وعيه الثقافي والفني يتشكل ببطء. ذلك الخط ربما يكون الأكثر إلهامًا في حياة أم كلثوم الشخصية، بعيدًا من فنها. لذا حاولت جاهدًا توظيف كل تلك المحطات التاريخية في مصر على مدار خمسين عامًا، من خلال قصة صعودها الاجتماعي والفني، وارتباط ذلك بملَكات أم كلثوم الشخصية في التجاوب مع الواقع المحيط بها، وتغيره أحيانًا.
- هل فكرت في التعريف الموسع بالمحيطين بأم كلثوم، ممن ورد ذكرهم في الكتاب وكانت لهم أدوار مهمة ومحورية في حياتها أو في الحياة الفنية والثقافية المصرية بشكل عام؟
* النص في الأساس عن أم كلثوم، والمساحة المطلوبة كانت محدودة وليست واسعة للاسترسال، ومن هنا كان واجب التعريف السريع بكل شخصية عاشت على هامش فنّ أم كلثوم، أو دارت في فلك نتاجها الغنائي، من دون الدخول في مساحات قد تطيل النص وتحوله إلى سيرة تاريخية موسعة.
- كان كتابك السابق حافلاً بالمصادر، أملاً في أن يصير وثيقة تاريخية لتلك المرحلة المهمة. لماذا غابت عن هذا الكتاب؟
* ببساطة لأن الأهداف مختلفة، الكتاب الأول كان محاولة رصد وصيانة مرحلة غائبة في حياة أم كلثوم، تقديم سردية واضحة عن سنوات لم يُكتب عنها إلا سريعًا في مقالات أو سطور في كتب، فأم كلثوم وسنوات المجهود الحربي ليست فقط سيرة مقتطعة من حياة أم كلثوم، لكنها كانت سيرة مصر بعد النكسة، وربما صورة بانورامية واسعة للشعوب العربية التي تفاعلت مع دور "الست" الاجتماعي والوطني. لذا فمتطلبات العمل التاريخي تفرض على الكاتب أن يخضع لمعايير كتابة التاريخ ودراساته. أما هنا قالحال مختلف، كان الهدف تقديم رواية بسيطة لحياة أم كلثوم، من دون اللجوء إلى فكرة المصادر، نموذج أقرب إلى الرواية المختلط بها الخيال الأدبي مع الحقيقية التاريخية، فقط من أجل توضيح المعنى والصورة العامة. وبالمناسبة، فكرت أكثر من مرة في وضع لائحة مصادر، لكني شعرت أن هذا قد يعيق القارئ الناشئ، ويترك داخله انطباع السيرة البحثية، لا السيرة الحميمية التي تقرب الشخصية منه بلا تعقيد.
- إلى أي حد ترى أن هذه المبادرات قادرة على خلق جمهور جديد لأم كلثوم، بين من لا يعرفون ربما حتى اسمها في ظل تطور موسيقي متلاحق، بعيد تماماً من المنطقة الفنية التي أتت منها وأبدعت فيها؟ أم أنك تطمح إلى تخليدها كقيمة فنية، كتاريخ، وأثر ودليل على عصر ولّى وانتهى؟
* أنا من المؤمنين أن تواصُل أم كلثوم مع الأجيال الجديدة هو أمر حتمي، قد يستغرق الموضوع وقتًا، لكن عند مرحلة عمرية معينة يلفت صوتها وأغانيها أذهان الشباب واليافعين، وعلى المستوى القريب مني ألاحظ دائمًا مراهقين تجذبهم مقاطع من أغاني أم كلثوم، مقاطع صغيرة أو قصيرة، لكنها قد تصبح مفتاحًا سماعيًا لتقريب طربها إليهم. فعلى سبيل المثال، من فترة قريبة استُدعيت أغنية "في نور محياك الهني" كتريند في مواقع التواصل الاجتماعي، بعد إضافة مؤثرات سمعية وبعض التوزيع الجديد، ولاقت تلك الأغنية رواجًا واسعًا بين الشباب تحت سن 18 عامًا، رغم أن الأغنية قدمت في فيلم "سلامة" العام 1945، وكانت غير رائجة في الإذاعة والتلفزيون. لكن الأجيال الجديدة تفاعلت معها ومع كلماتها، ومع اللحن الكلاسيكي الشرقي الذي وضعه زكريا أحمد، وهنا تأتي ضرورة تقديم الأعمال القديمة داخل صيغة مقبولة من جميع الأطراف، تخاطب الأجيال الجديدة بلغتها وبإيقاعها، ولا تعتدي على النص الأصلي وتشوهه. لكن اللافت للنظر أن أم كلثوم تحديدًا هي أقدم الأصوات العربية المسموعة بغزارة إلى اليوم، رغم أننا على أعتاب الذكرى الخمسين لوفاتها، وهو ما يؤكد أننا أمام قيمة إعجازية بكل المقاييس. فبعد وفاتها توالت خمسة أجيال، وما زال صوتها محط إعجاب ونقاش واحتفاء، وهذا ما يؤكد قيمتها الفنية، وأنها كانت صنيعة مصرية تمامًا، استمدت نجاحها من عوامل ثابتة في الشخصية المصرية، وهو ما يدعم حضورها الدائم والمتجدّد.
- هل يعني هذا أنك لا تخشى أن تُنسى أم كلثوم في المقبل من الأيام بالقياس إلى التطور الكبير الحاصل في الأوساط الموسيقية حالياً؟ وما السبيل للحفاظ على تواجدها في وجهة نظرك؟
* في الذكرى الأول لوفاتها، ألقى أحمد رامي قصيدته البديعة في رثائها، وقال فيها بيتًا ربما تنبأ فيه بمستقبل صوت أم كلثوم بعد غيابها: "يا من أسيتم عليها بعد غيبتها/ لا تجزعوا فإن لها ذكر سيبقيها". والحقيقة أن رامي كان محقًا تمامًا في بيته، صوت أم كلثوم من المستحيل أن يغيب، حتى وإن تراجعت الشعبية مع اختلاف الأجيال وتبدّل الثقافات، يبقى الفن قادراً على التواصل والاشتباك، وأحيانًا يمنحه القِدَم براءة الخلود. فالفنون الموسيقية بشكلها العام تطورت، وتجاوزت المدارس النهضوية المعروفة، لكن باخ وبيتهوفن وتشايكوفسكي استمروا كرموز عالمية ورواد الصناعة. وفي كل بلد في العالم، تقام في قاعات الموسيقى والأوبرات العالمية مهرجانات موسيقية لهم، وكذلك الفنون التشكيلية رغم تعدّد المدارس والاتجاهات، بقي الفن اليوناني وفن المصريين القدماء نماذج لحضارة الإنسان ودليلاً على تجربته الحضارية. وأنا متأكد من أنه، مع الوقت، سيعاد تشكيل واقع جديد مع أغاني أم كلثوم، وتطوير الأغاني بتوزيعات وتنويعات موسيقية، تمنح ذلك المنتج الفنّي المذهل قدرات التواصل مع الأجيال والثقافات الجديدة، لأن أغاني أم كلثوم ببساطة تمتلك ذلك المدخل التطويري، لكن ذلك مرتبط بالطبع بوجود النية والرغبة في إحداث التطوير، والأهم قبوله عند مستمعيها الكلاسيكيين
(**) كريم جمال
كاتب وباحث موسيقي، من مواليد الإسكندرية 1992، درس الموسيقى العربية أكاديمياً، وصدر له كتاب "أم كلثوم وسنوات المجهود الحربي" الحائز على جائزة الدولة التشجيعية.