تأويل الحاضر وصناعة المستقبل: اللاهوت الأنطاكيّ في مؤتمر أثينا

أسعد قطّان
الأحد   2024/09/15
احتضنت العاصمة اليونانيّة مؤتمراً علميّاً شارك فيه نحو خمسة عشر باحثاً (المدن)
احتضنت العاصمة اليونانيّة (12-14 أيلول/سبتمبر) مؤتمراً علميّاً شارك فيه نحو خمسة عشر باحثاً وباحثةً، من لبنان والولايات المتّحدة واليونان وفرنسا وبلجيكا وألمانيا وسويسرا، تدارسوا فيه عدداً من الإشكاليّات اللاهوتيّة المختصّة بما يُعرف بالمدى الكنسيّ الأنطاكيّ، وهو يضمّ إلى جانب سوريّا ولبنان والبلاد العربيّة، دول انتشار المسيحيّين العرب في الأميركيّتين وأوروبّا. صاحب فكرة المؤتمر ومنظّمه هو مركز الكنائس الشرقيّة في أبرشيّة ريغنزبورغ الألمانيّة الكاثوليكيّة. وهو يندرج ضمن سلسلة من المؤتمرات السنويّة التي شملت إبّان السنين الماضية اللاهوت في كلّ من بلغاريا وصربيا واليونان. 
كانت الانطلاقة من الكتاب المقدّس، إذ تطرّق المحور الأوّل إلى ما بُذل طوال العقود الأخيرة، كي يأتي تأويل هذا الكتاب جهداً مسيحيّاً مشتركاً، وذلك على خلفيّة أنّ الاختلافات العقيديّة بين المسيحيّين غالباً ما تضرب جذورها في كيفيّة تفسير الكتاب المقدّس، أو أنّ هذا التفسير كثيراً ما يأتي خاضعاً لمنطلقات عقيديّة مختلفة. وقد كان النصيب الأكبر هو لما يجري في الولايات المتّحدة على هذا الصعيد، حيث بات مفسّرو الكتاب المقدّس البروتستانت والكاثوليك والأرثوذكس، قادرين على أن يتعاونوا حتّى في جزئيّات العمل التأويليّ المنهجيّ بالرغم من وجود نبرات مختلفة في تراثاتهم، إذ عاد لا بُنظر إلى هذه النبرات بوصفها عامل تفريق. 


المحور الثاني تناول قضيّة التراث المسيحيّ العربيّ. فالمعروف أنّ المسيحيّين في المدى الأنطاكيّ، بصرف النظر عن افتراقاتهم العقيديّة والإداريّة، راحوا يكتبون لاهوتاً عربيّاً بعيد ظهور الإسلام لئن كان كثير منه ذا طابع دفاعيّ، بمعنى أنّه ينافح عن التوحيد المسيحيّ حيال الاتّهام بالشرك، إلّا أنّه غالباً ما يحيل على منطلقات فلسفيّة مشتركة مع علم الكلام الإسلاميّ.
وقد ركّز المحاضرون على ما يضطلع به هذا التراث من وظيفة لدى المفكّرين المسيحيّين المعاصرين في ديار العرب. من جهة أخرى، تطرّق هذا المحور أيضاً إلى ضرورة القيام بإعادة قراءة للمفكّرين الأنطاكيّين القدماء إبّان القرنين الرابع والخامس، في إطار ما يُعرف بالمدرسة اللاهوتيّة الأنطاكيّة. وقد أشار المشاركون إلى أنّ هذه المدرسة تختزن تنوّعاً كبيراً من حيث تفسير الكتاب المقدّس وصوغ العقيدة، يختلف اختلافاً جذريّاً عمّا تعرّض له مفكّروها من اختزال وتنميط إبّان زمن القيصر جوستنيان (527-565)، ما أفضى إلى الحكم على بعضهم بالهرطقة.

موضوع المحور الثالث كان شؤون النساء والشباب. كيف نسوّغ جمع هذين العنصرين في إطار واحد؟ لعلّ التسويغ الأبرز هو أنّ هاتين الفئتين هما الأكثر تعرّضاً للتهميش في الأوساط الكنسيّة، خصوصاً في منطقتنا العربيّة، وأنّ إعادة الاعتبار إلى النساء والشباب في حياة الكنائس لا بدّ لها من أن تستدخل ما توصّلت إليه العلوم الحديثة، ولا سيّما الاجتماعيّة والنفسيّة. وقد رصد المشاركون الجهود الحثيثة التي بُذلت في الآونة الأخيرة لتعزيز قضيّة المرأة في الكنيسة المارونيّة، مع إشراك لافت لمفكّرات ومفكّرين من كنائس أخرى. وتوقّفوا كذلك عند الديناميّات المجتمعيّة المتّصلة بالشباب، وخصوصاً البعد الرقميّ وما ينتج منه من علاقة مختلفة بالزمن وآليّة تشكّل المجموعات الصغيرة، فضلاً عن نزعة المؤسّسة الكنسيّة إلى شيطنة الأسئلة الجندريّة والترويج لفهم للجماعة الدينيّة يغلّب اعتبارها جماعةً مغلقةً مرصوصةً طائفيّاً وثقافيّاً على حساب ما يجب أن تكون عليه، أيّ جماعة تتّصف بالتعدّد والانفتاح.
المحور الرابع كان من نصيب ما بات يشار إليه على أنّه تحدّي السياق. ينطوي هذا التحدّي على عدد من الإشكاليّات تذهب من مسألة المواطنة والحرّيّة مروراً بشجون القضيّة الفلسطينيّة وصولاً إلى الإسلام بوصفه المناخ الذي يعيش فيه المسيحيّون في منطقتنا منذ القرن السابع. وقد اعتبر المشاركون أنّ أوّل محاولة لصوغ لاهوت سياقيّ في المدى الأنطاكيّ كانت كتاب الأب جان كوربون "كنيسة العرب" في طرحه التضادّ بين مخاطرة الوجود والخوف من الزوال. في ما يختصّ بالإسلام، لفت المحاضرون إلى الالتباسات التي ما زالت تعتري العلاقات الإسلاميّة-المسيحيّة من حيث الحاجة إلى تأصيل مقاربة نقديّة للتراث، راصدين شيئاً من الانتقال من نموذج الحوار اللاهوتيّ الصرف إلى الحوار في مسائل حياتيّة وأخلاقيّة، كالسلام والعدل والشأن البيئيّ. 
أمّا المحور الخامس والأخير، بالإضافة إلى توقّفه عند بعض عناصر ما يُعرف باللاهوت السياسيّ لدى كلّ من الأب ميشال حايك والمطران جورج خضر، فسعى إلى قراءة نقديّة تقييميّة لمدى قدرة الكنائس الأنطاكيّة على تثمير ما تتمتّع به من نقاط قوّة، كالتنوّع والتشديد على إنسانيّة يسوع، في سبيل خلق نمط حياة مجمعيّ حقّ في ما بينها. وكان الختام لمحاولة تتبصّر في مدى انكشاف المسيحيّين في منطقتنا، وخصوصاً الأرثوذكس، على تأثيرات خارجيّة كثيراً ما تتّسم بالأصوليّة والتزمّت والترويج لخطاب هويّاتيّ ضيّق، وذلك على حساب القول بهويّة منفتحة ومتنوّرة تستلهم غنى التاريخ المسيحيّ في هذه المنطقة من العالم.