ابراهيم معلوف في عالم ما بعد الحقيقة

رشا الأطرش
الخميس   2024/08/29
ما حصل مع ابراهيم معلوف، يقول عن حملات "مي تو" وحاضناتها اليوم، أكثر مما يحكي عن الموسيقي وعازف الترومبت اللبناني-الفرنسي. فمن الواضح أن استبعاد معلوف من لجنة تحكيم "مهرجان دوفيل للسينما الأميركية" في المدينة الساحلية بمنطقة النورماندي، جاء رضوخاً لديناميات عالم ما بعد الحقيقة الذي بات جزء معتبر من أصوات "مي تو" منغمساً فيه. واختيار كلمة الرضوخ هنا ليس اعتباطاً. إذ تصف قرارات تتخذ بلا سند صلب، لمجاراة "أجواء" تجمع البأس والتاثير، مع الافتقار إلى عقلانية القانون والديموقراطية المعاصرة التي تجعل كل حياة مهمة، ليس جسدياً فحسب، بل معنوياً أيضاً.

والحكاية، باختصار، أن المهرجان الذي يحتفل، في أيلول المقبل، بيوبيله الخمسين، ويَعِد تالياً باستضافة حشد غير مسبوق من النجوم، عانى خضّتَين كبريَين خلال الأسابيع القليلة الماضية. إذ نشر موقع "ميديابارت" الفرنسي المستقل، تحقيقاً يتحدث فيه موظفون سابقون عن تورط مدير المهرجان منذ 30 عاماً، برونو باردي، في حوادث تحرش وإيماءات وسلوكيات غير لائقة، ما أطاح باردي من منصبه لتحلّ محله المخرجة أودي هيسبيرت. وبعد بضعة أسابيع، وإثر إعلان أسماء الأعضاء في لجنة التحكيم، هددت حملة "مي تي" بضرب المهرجان. وقالت مديرته الجديدة، في مقابلة مع صحيفة "صنداي تريبيون"، مبررة استبعاد معلوف: "كان هناك الكثير من ردود الأفعال في الشبكات الاجتماعية وفي وسائل الإعلام، وقد ساد عدم الارتياح داخل الفريق الذي سبق أن أصيب بلكمات قوية بسبب القضية السابقة (برونو باردي). لم يكن بوسعي تجاهل هذا السياق، لا سيما مع وصول الأميركيين الذين يمتلكون حساسية عالية اتجاه هذه المواضيع".

والحال أن معلوف حوكم قبل سنوات في قضية "اعتداء جنسي" على قاصر تبلغ من العمر 14 عاماً، وحُكم عليه بالسجن 4 أشهر طبقاً لوقائع لطالما أنكرها، قبل أن تتم تبرئته بالكامل في الاستئناف. ولئن أقرّت أودي هيسبرت بأنها، شخصياً، لا تشكك في قرار المحكمة، فقد تمسكت بقرار الاستبعاد "من أجل الأداء الجيد والهادئ لمهرجان يحتفل بالذكرى الخمسين لتأسيسه". وهو ما اعتبرته محامية معلوف، فاني كولين، "فضيحة مطلقة"، مضيفة: "لقد تمت تبرئة معلوف بشكل كامل وأخير من التهمة الموجهة إليه منذ سنوات (...) واستبعاده الآن يعني أن قرار المحكمة لم يعد له قيمة في دولة القانون"، مؤكدة أنها وموكلها سيرفعان دعوى قضائية لإثبات الخطأ الذي ارتكبه المهرجان وتأكيد الضرر المعنوي الذي أصاب معلوف.


والحال إن قرار "مهرجان دوفيل" ممثلاً في هيسبرت، بدا نابعاً من مُعطيَين اثنين، ليس بينهما ما ينقض أو يُسقط تبرئة محكمة الاستئناف لمعلوف. أولاً، تفادي "الشوشرة" على النسخة الخمسين من "دوفيل" في الشبكات الاجتماعية، رغم ثقة المديرة في قرار المحكمة وفي دولة القانون الفرنسية. وثانياً، مراعاة "حساسية" الضيوف الأميركيين، المبنية بدورها – أو هكذا اعتبرت هيسبرت – على صخب مواقع التواصل، من دون كثير توقف عند الفرق بين أصوات تعلو بقضايا ومطالب وحتى تشكيك قانوني رزين ومتين حقوقياً وثقافياً وجندرياً، وبين الضجيج المجاني حول عناوين كبرى محقة بصورتها العامة لكن تفاصيلها لا تدور بالضرورة حول ضحية أبدية من نوع وشكل وجندر واحد.

في مقال سابق بعنوان "الجنس والنبيذ والمفارقة الفرنسية"، تطرقنا إلى فوارق ثقافية، وتمايزات في صناعة السينما بين أميركا وفرنسا. وإذا كانت حوادث تحرش واعتداءات جنسية عديدة، في أوساط السينما الفرنسية، ما زالت تشغل الإعلام والرأي العام والدوائر الفنية، وأدت ضغوط مشهودة لـ"مي تو" المحلية إلى دفعها قدماً باتجاه نهايات قضائية مُنصفة لضحاياها، فإن قضية معلوف تبدو مُبرمة (حتى الآن) من حيث الحُكم بتبرئته. ويبدو قرار هيسبرت وفريقها أقرب إلى تسويات السينما التجارية مع "ما يطلبه الجمهور"، تلافياً لوجع الرأس، وربما لخسائر معنوية ومالية قد تنتج عن جلَبة الشبكات الاجتماعية المدججة بعواطف فوارة أكثر من صدورها عن منابع موضوعية...

هو التوصيف المكثف لعالم ما بعد الحقيقة، حيث تعوم أيضاً نظريات المؤامرة (بينهم مثلاً أنصار دونالد ترامب والناشطون ضد اللقاحات)، والمعلومات المضللة (حملة بريكست وغيرها)، وحيث استطاع دفق من الادعاءات المدججة بالحمأة، دون المعلومات، تشكيل الرأي العام بقوة أكبر من الحقائق الخاضع للتحقيق والإثبات. تالياً، استحق مصطلح Post-truth تطويبه كلمة العام 2016 في قاموس أوكسفورد...

تطرق ماكس فيبر، في كتابه "الاقتصاد والمجتمع"، إلى نوعين من العقلنة. إحداهما مُحتسبة، وتركن إلى أدوات واضحة تحليلية وعلمية، وكَونية إن جاز التعبير. والأخرى هي العقلنة الأكسيولوجية، المشبعة بالشغف وقِيَم ما فوق الاحتساب. وإذا كان بحثُ واحِدنا عن الحقيقة يدور حول رغبته في أن يكون حاملاً لها بالدرجة الأولى، فإن بحثه هذا لن يطول، وسيركن إلى نرجسية مرتبطة بإرادة الهيمنة، مهما حسُنت النوايا. الحقيقة المنفصلة عن الحقائق، تصبح "بديلة" وقوة مهيمنة تغذي صورة مثالية عن الذات المضطلعة بها: ذاتٌ أذكى، متمردة، متحررة (من عبء الإثبات والتوثيق)، مُغامِرة، وآمِنة في مُثُلها الخاصة.

يبدو أن حملة "مي تو"، مع الاعتراف بكل ما أنجزته من خروق للنظام الأبوي والذكوري في ساحات القضاء ودوائر الانتلجنسيا على حد سواء، تقف راهناً في مغطس ما بعد الحقيقة هذا. وتزيد من تورطها، الهواجسُ الجماهيرية للمتن الثقافي. ربما وصل الفَيض إلى الرُّكبتَين، ولا بد ممّن يفتح مجرى التصريف كي لا يرتفع فيبلغ الرأس. هكذا، يصبح انتظار ما ستؤول إليه دعوى ابراهيم معلوف المضادة، ذا معنى.