أكرم قطريب لـ"المدن":التنقل بين الألسنة يمنح الترجمة أبعاداً لانهائية

سوزان المحمود
الأربعاء   2024/08/14
"الآن في عصر الرقمنة والتواصل الاجتماعي، لم يعد الشعر محصناً ضد هذه القوة المتجددة"
عن سيغل بوكس Seagull Books صدر في لندن كتاب "صرخات الحرب" "The Screams of War للشاعر السوري أكرم قطريب ضمن سلسلة عربية ضمت أعمالاً لروائيين وشعراء عرب منهم: صنع الله إبراهيم، سليم بركات، سحر خليفة، أروى صالح، ياسر عبد اللطيف، حسين البرغوثي، علوية صبح، صلاح الحمداني، سنان أنطون، جبور الدويهي، غسان زقطان، وغيرهم.

أنجز الترجمة الإنكليزية، البروفسور جوناس البستي، مع مقدمة بانورامية يشرح فيها الأسباب الفنية لاختياره 60 قصيدة، من أربع مجموعات شعرية، هي: "مُسمّراً إلى النوم كابنٍ وحيد" الصادرة سنة 2003 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت – عمان، "قصائد أميركا": الصادرة عن دار النهضة العربية سنة 2007، بيروت. "بلاد سرية" الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت/ عمان العام 2013، و"كتاب الغريق" الصادر عن دار مخطوطات، لاهاي 2016. يشغل البستي حالياً منصب أستاذ جامعي ومدير للدراسات الجامعية في مركز الدراسات الشرقية الأوسطية. وتركز اهتماماته البحثية على نظريات الأدب وإشكالية الترجمة الأدبية، والتاريخ الثقافي، وصورة العرب في الروايات الأدبية والإعلامية الأميركية، وأدب المهجر، والشعر العربي المعاصر، وعلى حياة وأعمال الكاتب المغربي محمد شكري، وقد صدرت له تسعة كتب والعديد من المقالات الأكاديمية.

يتمحور جزء كبير من عمل أكرم قطريب الشعري حول المكان ومعضلات أساسية لها علاقة بفكرة الموطن واستحضار ما بقي من الصور القديمة الأثيرة، إذ يستلهم من الذاكرة (الجغرافية وتاريخها) المادة الأولية لكتابة العاطفة والحنين الغامض لأشياء مفتقدة بقيت آسرة، وحولها تدور القصيدة التي تبدو في كثير من الأحيان وكأنها شريط سينمائي مقطوع من منتصفه.
بمناسبة صدور المختارات، أجرت معه "المدن" هذا الحوار:

- أثناء حديثنا فهمت أنك كنت قد اخترت عنواناً آخر للكتاب؟

* العنوان الأساسي هو "مرض الحنين"، لكن الناشر في سيغل بوكس اقترح هذا العنوان على اعتبار أن القصائد في غالبيتها العظمى تدور حول المكان السوري، وهي ليست سيرة ذاتية كما تبدو. لم أعترض عليه وقلتُ لنفسي فليكن، مع أن مانشيت الحرب في غلاف ديوان شعري، له محاذيره الفنية أيضاً.

- ما زال المكان شاغلك الأساسي، المكان الذي اختزلته بصورٍ محددةٍ أعدتَ رسم خريطته، كما هو الحال في القصائد المختارة؟  

* نعم إنها تتمحور حول المكان والبيت وحروب في الشرق الأوسط. بلاد رمزية أيضاً أتوهم وجودها. من دمشق وحمص وسلمية ونيويورك ونيوجرسي. إذا اعتبرنا أن الشعر هنا في صيغته الأساسية يدور حول فكرة المنفى الأميركي، والجغرافيات البعيدة، مع أنني هاجرتُ بداية 2001 باختياري الشخصي، فما يمكن الانتباه له هنا هو ذلك الخط الواهي بين أمكنة الولادة، والبلاد التي أتيناها من مسافات قصية. اكتشفتُ هنا أن الفكرة ذاتها تحتاج إلى إعادة تعريف. عشتُ قسماً كبيراً من حياتي شاهداً على الخراب التدريجي الذي بدأ زحفه داخل بلداننا.

أعتقد أيضاً أن الشعر في بنيته الأساسية يرتكز على الشوق إلى ذلك المنزل–البيت القديم، ربما يكون في حقيقته الرحم، الشوق: إنه ذلك المرض الذي كان معروفاً لدى المحاربين اليونانيين القدماء.

- ما يقال في نصوصك الشعرية أقل بكثير مما لا يقال، لكنه يصل بيُسر، فكيف تحولت علاقتك مع اللغة، وكيف أصبحت لغتك مُقتصِدة إلى هذا الحد؟  

* اللغة كانت شاغلاً لديّ، كتبتُ في البداية نصوصاً طويلة بلغة شعرية ثقيلة استفادت من إرث الشعر العربي، ثم مع الوقت بدأ يتفكك ذلك كله إلى ما يشبه الخفوت، وتراجع الإيقاعات ذات الصوت العالي. هدأت لدي اللغة، وصرت معنياً أكثر بالتقشف والصورة والاستعارات الخفيفة والكلام القليل. صار الاختزال بشكل من الأشكال وجهاً من وجوه الكتابة. نمط لم أعتده في البداية، ثم تدريجياً أصبحتُ أستسيغه، وأراه يعبّر عن التجربة بصدق أكبر. المنزل، الأمكنة، الوجوه، والصور الميتافيزيقية وأشياء الحياة. في البدايات لم أتجرأ على الاقتراب من مفردات العيش الواقعية، كنتُ كمن استيقظ فجأة وخرج من القاموس الكبير إلى تلك الشمس التي ستغير لون جِلد الكلمات وحتى بشرتي تغيرت ونبرتي أيضاً.

- اليوم في عصر ثورة المعلومات وجنون الاتصالات والمنصات والوصول السريع للمتابعين، هل ما زال للشعر حضور حقيقي؟

* الشعر موجود في كل مكان في الكون، وهو عبر العصور كلها، الشاهد على أحوالنا وآلامنا وسعادتنا وهزائمنا. منذ أساطير بلاد الرافدين إلى الأوديسة والإلياذة، وحتى آخر قصيدة تُقرأ في مقهى في نيويورك أو القاهرة أو بيروت. والآن في عصر التواصل الاجتماعي والرقمنه والسيلفي، لم يعد الشعر محصناً ضد هذه القوة المتجددة للمنصات التي أصبحت مزدهرة بالشعراء من الخلفيات ومستويات الخبرة كافة. الزمن يتغير والفن أيضاً يتغير معه. مع الاختفاء التدريجي لأكشاك بيع الصحف، وانحسار الصحافة الورقية، فُتحت الأبواب أمام أصوات متنوعة متحدية التسلسل الأدبي الهرمي التقليدي. لقد أصبح الشعر أسهل من أي وقت مضى. الزمن المجرد الذي لا نصل عتبته حتى يفوت الأوان.

- الترجمة عملية معقدة محفوفة بالمخاطر، حتى الآن كيف ترى عملية ترجمة الشعر؟ ما الذي يكسبه الشعر منها، وما الذي يخسره؟

* لأساليب ترجمة الشعر، تاريخ طويل، كما أن بعض النقاد وحتى الشعراء كانت لهم تحفظات حول هذا الفن، لأن الترجمة تحتاج إلى حماسة ومهارة وإلمام بالأصوات والإيقاعات المختلفة. فالتنقل بين الألسنة يمنح الترجمة أبعاداً لانهائية، وقد يضيف أو يغير في شكل اللغة ودلالاتها. وهنا لا بدّ من بعض الصدمات المعجمية، فكل نص فريد من نوعه، وفي الوقت نفسه هو ترجمة لنص آخر.

ما فعلَته الترجمة على مدى سنين طويلة هو أنها عرفتنا بالتقاليد الأدبية الجديدة، ومدت جسوراً بين الثقافات لا يمكن إنكارها. كان الأمر نوعاً من الملجأ الثقافي. أن نفكر أيضاً في مجموعة كبيرة من الترجمات التي أتت من إسبانيا وأميركا الجنوبية وروسيا وفرنسا وإنكلترا وأميركا، ومن جلجامش إلى الإلياذة والأوديسة ورباعيات الخيام وجلال الدين الرومي.

الخيارات التي تواجه المترجم، أصبحت متنوعة للغاية، وأحياناً تشكل الترجمة نفسها جوهر كل كتابة، وهي وسيلة فقط للاقتراب من قصيدة أصلية، والبقاء على مقربة من نسيج ذلك الأصل، يشبه إلى حد كبير فعل الصيانة والترميم لقطعة أثرية مكتشفة للتو، وقد يسيء المرمِّم/المترجم لهذه القطعة وقد يُلحق بها أضراراً لا رجعة فيها بسبب عدم كفاءة الترجمة. إذ قد تشبه النظر إلى نسيج ما من الجهة الخطأ، بتعبير سرفانتيس، أو أن "عصفوراً حيّاً أفضل من نسر مُحنط" والجملة للشاعر الإنكليزي إدوارد فيتزجيرالد الذي كان أول من ترجم رباعيات الخيام إلى الإنكليزية.