"قصائد المهرجانات": مسرحة الشعر بالجسد الحيّ

شريف الشافعي
الأحد   2024/08/11
جانب من افتتاح مهرجان الشعر في الصين
يبدو أن المسرح يملك دائمًا حق الدفاع عن وصفه التاريخي بأنه "أبو الفنون"، إذ لا ينفكّ يستقطب ويحتوي في عُلبته السحرية الألوانَ الإبداعية الأخرى، التقليدية والمعاصرة على السواء، وفي مقدمتها الشعر، فن العربية الأول.

أسفرت تلك العلاقة بين المسرح والشعر، منذ الإغريق والرومان حتى يومنا هذا، عن ثيمات باتت راسخة ومعروفة في سائر اللغات والأقطار. فلا تخلو ثقافة من الشعر المسرحي، أو تلك الكتابة المسرحية التي صيغت شعرًا بغرض أساسي هو بناء النص المسرحي المتكامل العناصر، من دراما وحوار وشخوص وغيرها، وبهدف العرض على المسرح بواسطة الممثلين. كما لا تخلو ثقافة من المسرح الشعري، الذي يستفيد من القصائد والمرجعيات الشعرية الكائنة، والتي ليس بالضرورة أن تكون قد كُتبت خصيصًا من أجل صياغة عمل مسرحي يُعرض للجمهور.
وخارج هذه الأطر الثابتة، فإن العلاقة بين المسرح والشعر تنتج أشكالًا إبداعية أخرى كثيرة، كتلك العروض الشعرية الأدائية مثلًا، المصحوبة بوسائط موسيقية وغنائية وبصرية متنوعة، وكتلك المعالجات الخاصة للقصائد والدواوين ذات الطابع الدرامي، ليتم إلقاؤها وتصويرها على الخشبة في ثوب مسرحي.

أما ما يمكن تسميته "شعر المهرجانات الدولية"، أو هذا النمط من القصائد الذي باتت له الغلبة في معظم مهرجانات الشعر الدولية الراهنة، فهو أيضًا شعر بنكهة مسرحية، حيث يضع الشعراء في اعتبارهم الصفة التمثيلية والتشخيصية للنصوص، وأبجديات التفاعل اللحظي مع الجمهور حال قراءة القصائد والتعبير عن مضمونها.
وفي سبيل حرص شعر المهرجانات على التوحّد بأجواء المسرح، فإنه يمضي عادة في واحد من مسلكين، يبدوان متعارضين تمامًا. المسلك الأول حداثي تجريبي، حيث ينفتح الشعر على المدارات اللانهائية للفنون الجسدية المعاصرة والطليعية. والمسلك الثاني: تقليدي، حيث يستحضر الشعر المنبرية والخطابية والموضوعات الحماسية المثيرة للمشاعر والمستدرّة للتصفيق، كتلك المتعلقة بالحروب والمجاعات وحقوق الإنسان والأوضاع البائسة للنساء والأطفال في مناطق النزاع، وما إلى ذلك. 

وفي هاتين الحالتين المتناقضتين، فإن المسرح يفرض سطوته في النهاية على الشعر الذي يُلقى على جمهور عام. كما أن شعر المهرجانات قد يمضي أحيانًا في المسلكين المتنافرين معًا، فيجمع بغرابة بين الأدائيات التعبيرية المتطورة، والقضايا الكبرى والموضوعات المباشرة التي تستدعي زعيقًا وتوجيهًا ودغدغة انفعالية.


(العراقي مازن المعموري في عرض أدائي)

تلك هي طبيعة النسبة العظمى من قصائد المهرجانات، وفق ما طالعه كاتب هذه السطور من مهرجانات شعرية دولية متعددة، آخرها مهرجان الشعر العالمي الذي نظّمه اتحاد الكتّاب الصينيين في مدينتي بكين وهانغتشو بالصين منذ أيام قليلة، ومن قبله مهرجان لوديف في فرنسا، ومهرجان بريدج ووتر في الولايات المتحدة، ومهرجان طنطا الدولي للشعر في مصر، ومهرجان جرش في الأردن، ومهرجان مراكش في المغرب، وغيرها.
في المهرجان الصيني، الذي احتضن شعراء مجموعة بريكس الاقتصادية، سادت لغة المسرح وطقوسه بشكل كبير، خصوصًا أن مجموعة من الشعراء والشاعرات هم أيضًا ممثلون محترفون. ومنهم البرازيلية لويزا روماو، الشاعرة والممثلة والباحثة الأكاديمية في النظرية الأدبية والأدب المقارن في جامعة ساو باولو. وجاءت قصائد صاحبة "نهر الدم" و"نحن أيضًا نحافظ على الحجارة هنا" أدائية مسرحية بامتياز، مشحونة بخبراتها السابقة في المشاركة في أعمال مسرحية حديثة، تتكئ على معالجات النصوص الشعرية دراميًّا.

وبدوره، غازل الشاعر إينوك شينجر من جنوب إفريقيا جمهور المسرح بقصائد تفاعلية وحماسية، ترتكز على موضوعات تتعلق بمقاومة القهر والاستغلال، والنضال ضد العنصرية. وسيطرت القضايا الكبرى والنزعات الإنسانية والأخلاقية، وطغت الحالة المسرحية النشطة أدائيًّا وبيانيًّا وصوتيًّا وجسديًّا، على قصائد الروسية إيفجينيا أوليانكينا، صاحبة ديوان "كالحياة"، والصينية يانغ بي وي، صاحبة "رحلة إلى المريخ"، والإثيوبية فيبين فانشو، الناشطة والطبيبة النفسية، والإيرانيين علي رضا غزوة، ومحمد حسين بهرميان، وكاظم فايزاده، وإدريس بختياري، وغيرهم. 


(بوب ديلان)

ولا يكاد يخلو شعر المهرجانات المسرحي من عنوان عريض أو موضوع جاذب أو قضية مثيرة، على أن هذه التوليفات الجديدة تسمح بتفجير ما وراء الكلمات من معانٍ ودلالات وإسقاطات وأعماق إنسانية. فالقصيدة أو الحكاية تتضافر مع عناصر أخرى أدائية من الغناء والتمثيل والحركة والإشارة ولغة الجسد المتفوقة.
وفي مهرجاني بريدج ووتر في الولايات المتحدة، وطنطا الدولي في مصر، انطلق الشاعر والكوميديان أندرو مانوكا من زيمبابوي، ليقدم عروضًا جسدية حية، تمزج القصائد بالصيغ الساخرة، معتمدًا على التفاعل المسرحي المباشر مع الجمهور وقدر من الارتجال لتوصيل فكرته، إلى جانب الموسيقى والإيقاعات الإفريقية والإشارات والصرخات، التي تحل محل اللغة النمطية.

(الجنوب افريقي اينوك شينجر)

ولعل ذلك الخروج عن نسق الشعر المألوف قد وجد انتشارًا أوسع منذ فوز الأميركي بوب ديلان بجائزة نوبل في الآداب عام 2016، إذ وصفت الأكاديمية السويدية إبداعات ديلان الأدبية بأنها عميقة الأثر في الموسيقى المعاصرة، ما يحمل اعترافًا بأن ما يقدّمه من أغنيات منغّمة بات وجهًا من وجوه الشعر والموسيقى في آن، وبالتالي فإن الشعر قد صارت له مجالات وانزياحات مغايرة للسائد.
ولقد شقت القصيدة الأدائية والتفاعلية والمسرحية طريقها أيضًا على أيدي شعراء عرب، في داخل الوطن العربي وخارجه، منهم العراقي مازن المعموري وأعضاء جماعة "ميليشيا الثقافة"، التي تعطي مساحة واسعة لبلاغة الجسد، في عروض شعرية وسط النيران والألغام والأسلاك الشائكة. وقد شارك المعموري في مهرجانات في العراق وفرنسا ودول متعددة. ومنهم أيضًا الشاعر المغربي محمد العمراوي، المقيم في فرنسا، والذي قدّم في مهرجان لوديف وغيره عروضًا متطورة للقصائد الأدائية، التي تجمع الشعر العربي والفرنسي والأمازيغي، والتمثيل، والحركة، والغناء، والموسيقى، وغيرها من الألوان الفنية والتعبيرية.