بسام حجار... الحياة والموت على السطر عينه

سليمان بختي
السبت   2024/07/13
يتخفى لأجل أن يظهر الموضوع ولا يظهر الظل الوارف ولا الظل القليل.
حمل الشاعر الراحل بسام حجار الى قصيدة النثر العربية الارهاف الذائب في كيان وكلمات وعبارات قليلة ولكن مليئة بالتكثيف والدلالة والعمق. كتب المنزل والعائلة والأشياء. المنزل العزلة. والعائلة التي تسقط باكراً في الموت (الأخت والأب) والأشياء المهملة والبسيطة. لكنه صنع من كل ذلك عالماً مدهشاً ساحراً وقاموساً شعرياً يخصه وحده وهذه ميزة الشعراء الكبار.
 
ولد بسام حجار في صور في 13 آب 1955. درس الفلسفة في الجامعة اللبنانية. وأكمل دراساته الجامعية متخصصاً بالدراسات الفلسفية من جامعة السوربون في باريس. عمل في الصحافة منذ 1977 وكتب في جريدة "النداء" ثم انتقل إلى" النهار" كاتباً في الصفحة الثقافية. وفي تلك الفترة اكتشفنا بسام حجار في كتاباته الجادة والمتينة المصبوبة في كل ما يكتب. هناك تزاملنا في الصفحة الثقافية لسنوات، تلك الصفحة كان يرعاها الشاعر الكبير شوقي أبي شقرا في مدى عمق التجارب المتنوعة والافق المنفتح على كل افق. كان بسام حجار متميزاً في اختياراته وصياغاته ولغته الشفافة وانعطافاته العميقة في كل موضوع. ونشعر كأنه يتخفى لأجل أن يظهر الموضوع ولا يظهر الظل الوارف ولا الظل القليل. ولكن حتى عندما تعرفنا إليه بقي بسام طيفاً عليلا من الرقة أو ظلاً ماثلا تخاف عليه من شمس تبدد كل الظلال. بقي يكتب في صفحة النهار الثقافية حتى العام 1991. ثم انتقل ليكون ضمن فريق "ملحق" النهار مع الياس خوري وبلال خبيز وغيرهم.

في العام 1999 انتقل إلى جريدة "المستقبل" وعمل في ملحق "نوافذ" مع حسن داوود ويوسف بزي وغيرهما. واستمر فيها حتى وفاته في العام 2009 جراء مضاعفات مرض السرطان. 

ترك بسام حجار مجموعات شعرية مهمة رسخت بصمتها في قصيدة النثر في لبنان والعالم العربي. وهي: "مشاغل رجل هادئ جدا"(1979)، "لاروي كمن يخاف أن يرى"(1985)، "فقط لو يدك"(1990)، "صحبة الظلال"(1992)، "مهن القسوة"(1993)، "معجم الأشواق"(1994)، "مجرد تعب"(1994)، "حكاية الرجل الذي احب الكناري"(1996)، "كتاب الرمل"(1999)، "بضعة أشياء"(2000)، "البوم العائلة"(2000) "تفسير الرخام"(2006). وترك اكثر من ستين كتاباً في الترجمة تنوعت ما بين الرواية والفلسفة والاجتماع ناقلا لأهم التجارب والرموز والأسماء العالمية الى العربية مثل كواباتا وبورخيس وسالنجر وبيتر هاندكه والطاهر بن جلون وارابال وهايدغر وامبرتو ايكو وكالفينو وجان بورديار والكسي دي توكفيل وغيرهم. وهناك كتاب حول تجربته في الترجمة التي أخذت منه الكثير بعنوان" مديح الخيانة". كما صدرت له مختارات شعرية بعنوان "سوف تحيا من بعدي". وصدرت اعماله الشعرية الكاملة عام 2019.

لا أعرف كيف تطابق وقت بسام حجار ولغته مع مشاغل الحياة وايقاع العالم وحبه الهاتف للعائلة؟ كيف رتب حياته بمساحلتها القليلة والمحدودة بين البيت والكتب والباص والجريدة والابتسامة الذاهلة عن عالم غارق في ضروراته وتفاهاته؟ لكن هذه اللغة التي قرأناها في كتبه ومقالاته وعباراته السائرة نفذت إلى حقيقة مغايرة ولامست عالماً كان من الصعب تحديده لولا صوته الشعري المميز. أتأمله يقف في صحبة الظلال طويلاً لاجل كلمة أو ينتظر طويلا كالصوفي في دورانه لأجل ضوء أو نجمة تسقط ولا يراها. وبسام هو قصيدة نادرة وكلامه قليل ومتعثر وحيزه المكاني ضئيل وزهده حقيقي بالرغبة والضوء والإعلام لذلك وطد النفس كالراهب البوذي على المكوث في عتبات البيت ونوافذه وزواياه. أو الغرق في الكتب ثم الانكفاء إلى مشاغل الذات وتصاريف الحياة. كأنه وقف طويلا بين الحياة والموت بين الحب والفقدان. وفي نهاية المطاف لم تعد تعنيه لا هذه ولا تلك. كنت كلما قرأت له قصيدة امعنت النظر وقلت في نفسي: كم مرة أعاد تقليب الجملة على مواضعها؟ وكيف اهتدى إلى الأثر الاكثر بساطة والاكثف عمقاً؟ كان له مفرداته التي تشير إليه مثل: الجوار المخيف او صحبة الظلال أو لا تتركوا أثراً أن غادرتم أو هل رفعك السراب شخصاً؟

نتذكر بسام حجار الهادىء في مشاغله والذي كتب الرثاء في الحياة قبل الموت. وكتب الشعر قاصداً وغافلاً ولكن في عمق الرؤيا والوعي. بسام حجار لا يزال في مكانه أو عائداً إلى مكانه. كاننا نسمعه يقول من جديد:
"لا أبالي بي
اذا مت أمس أو اليوم
أو اليوم الذي يلي
ولا أبالي بي ان بقيت حياً لأيام
لأعوام أخرى
فلم يبق ما تصنعه برجائي 
بالشهوات التي تبقت 
لم يبق ما أصنعه بمتسع اليوم   
كل يوم".
تسربت الحياة بين أصابعه تبدد الموت في الظل القليل ولم يبق سوى النداء الخفي. لم يبق سوى الشعر.