أختي أميرة: من أين تأتي المرارة؟
يلتصق اسم أحمد قعبور بالناس. هو قال جهوراً، بأنه يغني لهم (بدي غنّي للناس).
ينبش قبورهم. يسترسل في حالة حداد تولد بعد موت (اناديكم) يأبى الرحيل. يخربش قريباً جداً من المنسي فينا، طوعاً وبكثير من التفاني.
قعبور لا يريدنا أن ننسى ولا يريدنا أن نكبح. أو نرتاح في مخاوفنا لما لديها من قوّة الاعتياد. وعليه، ولأنه حمل بيروت، طفلة، ثم ناساً من دون وجوه، ثم شارعاً، ثم قصة اغريقية بيروتية تأبى الاندثار- كونها وببساطة، أصبحت ميتولوجيا خاصة بنا- قرر أن يقرع باب أخت، من بيروت. أخت الذين لا أمهات لهم سواها. أخت اللواتي يصبحنها او أصبحنها، غصباً عنهن أو بإرادتهن، مُقرِّرات بشيء من الحتمية العبثية، أن يربّتن على كتف المجتمع، منحنيات الرؤوس لتنميطاته.
قعبور يغني، وهو الناظر وهو الصانع، وهو الذي توقف عند "حدث"، لم يتوقف غيره عنده: حدث أن غنّى للأخت. يبقى أن نتساءل حول الرمز، وعليه، حول التمثيلات. وكيف ترجمها، في عملية تواصلية شبه لاواعية، كل من هلل للأغنية فور اصدارها، أو كل من شعر بأنها "ثقيلة، بليدة"، حالة حزن لم نعد نحتمل أن يصفعنا. خصوصاً إن كان المغنّي، محمّلاً بعواطف سهلة ومباشرة.
ربّ سائل عن ماهية الفن، عن دوره ووقعه، عن صيرورته.
نسأل الفن عن نفسه، أولاً. والفنان عن عمله، الذي نعتقد بأنه صنعة، ومسؤولية في الصناعة تلك.
بورخيس يرد كل تلك الأسئلة إلى إجابة واحدة، بسيطة بساطة العبقرية، إن قُرئت: الرموز.
أن يستطيع أي كاتب، شاعر، صانع أغاني، أن يحوّل اليومي إلى رمز، يتخطى به الحدث نفسه، ليتحوّل، تحوّلا جذرياً، إلى "ما يرمز إلى"، لا إلى شيء محدّد محدود بحدود الحدث.
أن نسمع براسينس اليوم، أو بربرا، بعد عقود من خلقهما للرموز، هو أن نعترف بأبدية الرمز الذي صنعاه. أن يصبح شيئاً يقارب الأسطورة، تلك التي رغم تغيّر أبطالها، تبقى مكتملة الجوهر.
الرمز "اجتماعي". بمعنى أن الذي تحوّل من الحدث إلى أغنية، مثلا، من خلال الكلمات المشبعة بـ"اصطلاحات"، يحمل معنى لمجموعة اجتماعية، لندخل مجدداً إلى عالم كلود ليفي شتراوس، حيث الموسيقى هي لغة، دال ومدلول، مُشير ومُشار اليه، ليصبح المعنى تواصلاً رمزياً.
ماذا حمّل أحمد قعبور أغنية "أختي أميرة"؟ وماذا حمّلناها نحن؟
تنطوي الحالة الميلانكولية (الحنين الممزوج بالمرارة) التي تحدّث عنها فرويد على "اضطراب في تقدير الذات"، وإفقار للأنا، ومهاجمة الذات لنفسها، حين يصبح الشيء المفقود منسحباً من الوعي، بحيث لا نستطيع أن ندرك ما فقدناه.
من هي أميرة؟ أهي رمز لبيروت التي نطل عليها وهي تتبرّج، خلخالها صامت، لا يزورها أحد؟ لقد ماتت بيروت ألف مرة. ولست على يقين بأنه تم احياؤها. الموت مُنتهٍ بنفسه. الموت سهل حين نعترف به. لكنه مرير أن أصرينا على عدم حدوثه. أن أصرينا بأن للمنازل كراسي لا يجلس عليها أحد، لأن الذين تركونا، ما زلنا نتمسك بخيط من وجودهم، لنجعل الكرسي، والنوافذ والشارع، رمزاً لاستمراريتهم.
ميلانكوليا بيروت، حيّة ترزق. دوامة مفتوحة ما بين الأمس واليوم. قاطعة رأس الغد، بشيء من الأمل الساذج. من التعلق الساذج. من الجمود. وعليه، يمكن أن يصبح هذا "الراوح مكانك" أخطر من أن يُسمى حنيناً. فهو نكران مفتوح على ألوان الأمس.
ماذا تخبرنا أميرة؟ بأن المرأة غير المتزوجة، ستتبرج للّا-أحد. ستنتظر اللّا-أحد. ستحيك وحدتها كمن يحيك كنزة عمره، ألف مرة. وألف مرة، يفشل. ويعيد الكرّة. تخبرنا عن الوحدة. المرأة الأخت الحنون التي لا أحد يقرع بابها، تخبرنا بأن الوحدة نعرفها وتعرفنا، نحن النساء تحديداً. نحن اللواتي لبستنا أميرة كجِلد ثانٍ، كمصير يلوح لنا في الأفق، عن وحدة لا نفكر فيها خوفاً من أن تبتلعنا.
تغني أميرة مع بربرا:
"وجدتها على عتبة الباب
ذات مساء وأنا عائدة إلى البيت
في كل مكان، ترافقني
لقد عادت، إنها هنا!
تلك التي تشم الحب الميت
تبعتني خطوة خطوة
الحقيرة، لتذهب الى الجحيم
لقد عادت، إنها هنا"
في عصر المرأة التي تتحدّى العمر، تتحدى الخمسين لتصبح أربعين، تتحدّى الوصم والتنميط، لتخفي تجعيدة تلو الأخرى، في عصر الحريات والأصوات العالية والحقوق التي نصارع لننتزعها انتزاعاً، تأتي أميرةُ قعبور، بكل ما تحمل صورة الأخت التي تعيش وحدها، من تنميط. لا ندري بادىء الأمر، ماذا يحدث لنا. نسمتع لقعبور، أولاً لأنه قعبور، مدركين سلفاً بأننا سنسافر في الهشاشة والرقة.
لعلّ هناك من سيشرع ليقول بأن التنميط هذا، ولّى زمنه. وبأن المرأة اليوم أكثر تحرراً من أي وقت مضى. في ظاهر الأمر، هي كذلك. في باطنه، هي ما زالت تحمل عبء ما كبحته، هي، وكل النساء قبلها، على مر آلاف السنين.
ذلك الكبح، نحمله معنا. أحمله معي أنا. وعليه، أصبح أميرة لثوانٍ. أحزن على نفسي التي سأصبحها. أخاف وعد الوحدة الذي يغنيه قعبور، وأحزن من عينه التي تراني هكذا، والتي صنعت أميرة، كما تصنع عيون الأخوة الذكور مصير الأخت الكبرى.
حساسية اللحن، ورقة صوت قعبور، لم يلعبا دور البلسم. تلك العواطف المباشرة السهلة، تحرك عواطف مباشرة سهلة. خوف مباشر آنيّ، ينتهي حين ألمس على شاشة المحمول، زرّ stop، لأسأل، كما آخرين وأخريات، عن ماهية الفن. ماهية تلك الأغنية، اليوم تحديداً. وهل نرتبط معاً، كمجموعة اجتماعية، بالرمز والمعنى الذي تولده؟
كل شيء في المجتمع اليوم يميل إلى تدمير الفرد، إلى تجريد الإنسان من شخصيته. لعلّ الأغنية تنكر ذلك عمدًا. في حين استمع الآلاف حتى هذه اللحظة، معاً، لـ"أختي أميرة"، عاشها كل منهم، كحالة حميمية لفرد معزول.
في الماضي، غالبًا ما كانت الأغنية تبدأ مع جمهور كبير، في صالات وفضاءات عامّة. أما اليوم، أصبحت شكوى أو انفجاراً للفرح، أو حتى حنيناً، نوعاً من الحميمية، نتوقع نحن المستمعين، أن يكون الصانع المؤدي، شعَر بها نيابة عنا، لنتماهى معه. فنعتبر بأن أميرةَ قعبور، هي حدث حميمي في حياته، رمز للأخت الكبرى ومنازل بيروت، نتشارك معه، بها. ونجد أنفسنا أمام احتمالين للتلقي:
الأول: لا أخت لقعبور تُدعى أميرة. ولا منازل في بيروت تنتظر عودة "يلي راحوا". ولا جدوى من أن نفجر المشاعر مدة دقائق، لندوسها بعد لحظة، لأنها مجانيّة، كما كل ما هو مجاني.
الثاني: هناك سِيَر ذاتية لا ترتكز على المُعاش، بل على الملاحظة الحثيثة، والقدرة العالية على التماهي والتعاطف. وما يجعل التاريخ حيّاً، هو الإصرار على انتظار "يلي راحوا". الإصرار على التذكير به، لنخرج من النسيان الطوعي. ولنصفع رتابة حياتنا، بالوحدة التي تنتظرنا. لعلّنا نخرج منها. لكم أن تختاروا أياً من الاحتمالين اعلاه. الأرجح أنكم اخترتموه سلفاً.
ينبش قبورهم. يسترسل في حالة حداد تولد بعد موت (اناديكم) يأبى الرحيل. يخربش قريباً جداً من المنسي فينا، طوعاً وبكثير من التفاني.
قعبور لا يريدنا أن ننسى ولا يريدنا أن نكبح. أو نرتاح في مخاوفنا لما لديها من قوّة الاعتياد. وعليه، ولأنه حمل بيروت، طفلة، ثم ناساً من دون وجوه، ثم شارعاً، ثم قصة اغريقية بيروتية تأبى الاندثار- كونها وببساطة، أصبحت ميتولوجيا خاصة بنا- قرر أن يقرع باب أخت، من بيروت. أخت الذين لا أمهات لهم سواها. أخت اللواتي يصبحنها او أصبحنها، غصباً عنهن أو بإرادتهن، مُقرِّرات بشيء من الحتمية العبثية، أن يربّتن على كتف المجتمع، منحنيات الرؤوس لتنميطاته.
قعبور يغني، وهو الناظر وهو الصانع، وهو الذي توقف عند "حدث"، لم يتوقف غيره عنده: حدث أن غنّى للأخت. يبقى أن نتساءل حول الرمز، وعليه، حول التمثيلات. وكيف ترجمها، في عملية تواصلية شبه لاواعية، كل من هلل للأغنية فور اصدارها، أو كل من شعر بأنها "ثقيلة، بليدة"، حالة حزن لم نعد نحتمل أن يصفعنا. خصوصاً إن كان المغنّي، محمّلاً بعواطف سهلة ومباشرة.
ربّ سائل عن ماهية الفن، عن دوره ووقعه، عن صيرورته.
نسأل الفن عن نفسه، أولاً. والفنان عن عمله، الذي نعتقد بأنه صنعة، ومسؤولية في الصناعة تلك.
بورخيس يرد كل تلك الأسئلة إلى إجابة واحدة، بسيطة بساطة العبقرية، إن قُرئت: الرموز.
أن يستطيع أي كاتب، شاعر، صانع أغاني، أن يحوّل اليومي إلى رمز، يتخطى به الحدث نفسه، ليتحوّل، تحوّلا جذرياً، إلى "ما يرمز إلى"، لا إلى شيء محدّد محدود بحدود الحدث.
أن نسمع براسينس اليوم، أو بربرا، بعد عقود من خلقهما للرموز، هو أن نعترف بأبدية الرمز الذي صنعاه. أن يصبح شيئاً يقارب الأسطورة، تلك التي رغم تغيّر أبطالها، تبقى مكتملة الجوهر.
الرمز "اجتماعي". بمعنى أن الذي تحوّل من الحدث إلى أغنية، مثلا، من خلال الكلمات المشبعة بـ"اصطلاحات"، يحمل معنى لمجموعة اجتماعية، لندخل مجدداً إلى عالم كلود ليفي شتراوس، حيث الموسيقى هي لغة، دال ومدلول، مُشير ومُشار اليه، ليصبح المعنى تواصلاً رمزياً.
ماذا حمّل أحمد قعبور أغنية "أختي أميرة"؟ وماذا حمّلناها نحن؟
تنطوي الحالة الميلانكولية (الحنين الممزوج بالمرارة) التي تحدّث عنها فرويد على "اضطراب في تقدير الذات"، وإفقار للأنا، ومهاجمة الذات لنفسها، حين يصبح الشيء المفقود منسحباً من الوعي، بحيث لا نستطيع أن ندرك ما فقدناه.
من هي أميرة؟ أهي رمز لبيروت التي نطل عليها وهي تتبرّج، خلخالها صامت، لا يزورها أحد؟ لقد ماتت بيروت ألف مرة. ولست على يقين بأنه تم احياؤها. الموت مُنتهٍ بنفسه. الموت سهل حين نعترف به. لكنه مرير أن أصرينا على عدم حدوثه. أن أصرينا بأن للمنازل كراسي لا يجلس عليها أحد، لأن الذين تركونا، ما زلنا نتمسك بخيط من وجودهم، لنجعل الكرسي، والنوافذ والشارع، رمزاً لاستمراريتهم.
ميلانكوليا بيروت، حيّة ترزق. دوامة مفتوحة ما بين الأمس واليوم. قاطعة رأس الغد، بشيء من الأمل الساذج. من التعلق الساذج. من الجمود. وعليه، يمكن أن يصبح هذا "الراوح مكانك" أخطر من أن يُسمى حنيناً. فهو نكران مفتوح على ألوان الأمس.
ماذا تخبرنا أميرة؟ بأن المرأة غير المتزوجة، ستتبرج للّا-أحد. ستنتظر اللّا-أحد. ستحيك وحدتها كمن يحيك كنزة عمره، ألف مرة. وألف مرة، يفشل. ويعيد الكرّة. تخبرنا عن الوحدة. المرأة الأخت الحنون التي لا أحد يقرع بابها، تخبرنا بأن الوحدة نعرفها وتعرفنا، نحن النساء تحديداً. نحن اللواتي لبستنا أميرة كجِلد ثانٍ، كمصير يلوح لنا في الأفق، عن وحدة لا نفكر فيها خوفاً من أن تبتلعنا.
تغني أميرة مع بربرا:
"وجدتها على عتبة الباب
ذات مساء وأنا عائدة إلى البيت
في كل مكان، ترافقني
لقد عادت، إنها هنا!
تلك التي تشم الحب الميت
تبعتني خطوة خطوة
الحقيرة، لتذهب الى الجحيم
لقد عادت، إنها هنا"
في عصر المرأة التي تتحدّى العمر، تتحدى الخمسين لتصبح أربعين، تتحدّى الوصم والتنميط، لتخفي تجعيدة تلو الأخرى، في عصر الحريات والأصوات العالية والحقوق التي نصارع لننتزعها انتزاعاً، تأتي أميرةُ قعبور، بكل ما تحمل صورة الأخت التي تعيش وحدها، من تنميط. لا ندري بادىء الأمر، ماذا يحدث لنا. نسمتع لقعبور، أولاً لأنه قعبور، مدركين سلفاً بأننا سنسافر في الهشاشة والرقة.
لعلّ هناك من سيشرع ليقول بأن التنميط هذا، ولّى زمنه. وبأن المرأة اليوم أكثر تحرراً من أي وقت مضى. في ظاهر الأمر، هي كذلك. في باطنه، هي ما زالت تحمل عبء ما كبحته، هي، وكل النساء قبلها، على مر آلاف السنين.
ذلك الكبح، نحمله معنا. أحمله معي أنا. وعليه، أصبح أميرة لثوانٍ. أحزن على نفسي التي سأصبحها. أخاف وعد الوحدة الذي يغنيه قعبور، وأحزن من عينه التي تراني هكذا، والتي صنعت أميرة، كما تصنع عيون الأخوة الذكور مصير الأخت الكبرى.
حساسية اللحن، ورقة صوت قعبور، لم يلعبا دور البلسم. تلك العواطف المباشرة السهلة، تحرك عواطف مباشرة سهلة. خوف مباشر آنيّ، ينتهي حين ألمس على شاشة المحمول، زرّ stop، لأسأل، كما آخرين وأخريات، عن ماهية الفن. ماهية تلك الأغنية، اليوم تحديداً. وهل نرتبط معاً، كمجموعة اجتماعية، بالرمز والمعنى الذي تولده؟
كل شيء في المجتمع اليوم يميل إلى تدمير الفرد، إلى تجريد الإنسان من شخصيته. لعلّ الأغنية تنكر ذلك عمدًا. في حين استمع الآلاف حتى هذه اللحظة، معاً، لـ"أختي أميرة"، عاشها كل منهم، كحالة حميمية لفرد معزول.
في الماضي، غالبًا ما كانت الأغنية تبدأ مع جمهور كبير، في صالات وفضاءات عامّة. أما اليوم، أصبحت شكوى أو انفجاراً للفرح، أو حتى حنيناً، نوعاً من الحميمية، نتوقع نحن المستمعين، أن يكون الصانع المؤدي، شعَر بها نيابة عنا، لنتماهى معه. فنعتبر بأن أميرةَ قعبور، هي حدث حميمي في حياته، رمز للأخت الكبرى ومنازل بيروت، نتشارك معه، بها. ونجد أنفسنا أمام احتمالين للتلقي:
الأول: لا أخت لقعبور تُدعى أميرة. ولا منازل في بيروت تنتظر عودة "يلي راحوا". ولا جدوى من أن نفجر المشاعر مدة دقائق، لندوسها بعد لحظة، لأنها مجانيّة، كما كل ما هو مجاني.
الثاني: هناك سِيَر ذاتية لا ترتكز على المُعاش، بل على الملاحظة الحثيثة، والقدرة العالية على التماهي والتعاطف. وما يجعل التاريخ حيّاً، هو الإصرار على انتظار "يلي راحوا". الإصرار على التذكير به، لنخرج من النسيان الطوعي. ولنصفع رتابة حياتنا، بالوحدة التي تنتظرنا. لعلّنا نخرج منها. لكم أن تختاروا أياً من الاحتمالين اعلاه. الأرجح أنكم اخترتموه سلفاً.