يوميات النزوح: أين تذهب الأحلام؟
تبقى الأحلام طاقة حيوية نظيفة، تتنوع وجوهها وصيغها واحتمالاتها المفتوحة على المقاومة والتجدد والأمل، ولا تنقلب أبدًا إلى كوابيس فاسدة، ولا تباد تحت آلة الحرب، ولا تنفد بفعل الموت، وإن دفع اليأس المؤقت والإحساس بالعدمية إلى القول بغير ذلك أحيانًا.
هي مثل روح نقية خالصة، ربما تضيق ذرعًا بمحدودية جسدها وتشظي أعضائه الممزقة، وقد تأسرها معسكرات السراب والظلام والقهر والنزوح والتشتت لبعض الوقت، لكنها لا تغيب بغير رجعة.
"أين تذهب الأحلام؟"، سؤال تفرضه اللحظة القاسية الراهنة، صار عنوانًا لذلك المعرض الجماعي لمبدعي الكوميكس والقصص المصورة والسرديات البصرية والميديا الحديثة، ضمن فعاليات مهرجان وسط البلد الدولي للفنون المعاصرة "دي- كاف" في القاهرة (17 أكتوبر/تشرين الأول-10 نوفمبر/تشرين الثاني 2024).
في شقة فيكتوريا التاريخية في قلب العاصمة المصرية، تنطلق أعمال قرابة ثلاثين فنانًا في المعرض الذي تنظمه "مزج" للثقافة والفنون، من نقطة واحدة، هي نقطة الحلم. لكنّ كل عمل يرى هذا الحلم ويرسمه ويخلقه خلقًا ويتقصّاه ويفسّره على طريقته، وصولًا إلى الإجابة التي لا تكون يقينية أبدًا عن السؤال الافتتاحي الإشكالي "أين تذهب الأحلام؟".
في عالم دموي بائس، وفي خضم الأحداث المأسوية الجارية في فلسطين ولبنان ومناطق متعددة من الكوكب المصبوغ بالضغينة والألم، تتردد سرديات النزوح الكالحة على وجه الخصوص في مواجهة الأحلام، تلك التي راح كثيرون يتشككون في قدرتها على الصمود ومواجهة التآكل والصدأ.
للنازحين والمهجّرين في كل مكان معجمهم الخاص ومعاناتهم المشتركة. لغتهم الواحدة التي يتحدث بها الفلسطينيون واللبنانيون والسوريون، يدركها أيضًا الأوكرانيون، وشعب بوشمن البدائي في صحراء كالهاري الإفريقية، حيث يجري طرد القبائل من موطنهم الأصلي.
هذه اللغة الموصولة بالجرح البدني والنفسي لدى اللاجئين تجعل التساؤل عن مصير الأحلام تشككًا في كل شيء، ليس في الأحلام وجدواها فقط، بل وفي الحياة نفسها ومعناها وقيمتها، وقد غابت عنها العدالة، وانزاحت حقوق الإنسان إلى ما وراء الضباب والغيوم.
في هذه الأجواء، ينسج فنانو معرض "أين تذهب الأحلام؟" رؤاهم المتشابكة عن جوهر الحلم، وحاضره، ومستقبله، على اعتبار أن المستقبل بحد ذاته قد يغدو حلمًا. ومن الفنانين اللافتين المشاركين: منال الحاج، أحمد عبد المحسن، ليلى رمضان، نجاة محبوب، عمر جاد، مريم جمال، مي كريم، فاطمة قاسم، منة جريش، ياسمين مصطفى، مريم لاشين، وغيرهم.
في سرديتها البصرية "يوميات نازح"، تصطدم أحلام الفنانة منال الحاج بالأوضاع المفرطة في القتامة التي يكابدها المهجّرون الفلسطينيون وساكنو خيام الإيواء، في ظل ضعف جهود يونيسف وقلة إمكانات المنظمات الدولية. فمن كل نزوح يكاد يولد نزوح جديد، ومع اختفاء كل حلم، يتضاءل توقع ميلاد حلم جديد، ولكن اليوميات مستمرة في دورانها.
وعلى شاطئ غزة، في سردية الفنانة ليلى رمضان، تُسرق أحلام الأطفال الوردية بأيدي الصهاينة والأغراب، وتذهب إلى التحطيم على شاطئ الإبادة. ولكن هل هذا هو المآل النهائي للأحلام؟ تُصوّر الفنانة مي كريم المستقبل كحلم جديد يأتي من بعيد، حاملًا بداية اسمها "الحياة". فالخلاص قادم، والطيران قادم، والجيش الغاصب الذي استعمر وطنًا لن يستطيع أن يدمّر الحلم، الذي هو الحدث الشخصي الوحيد المملوك لصاحبه وحده، حتى آخر نَفَس من أنفاسه.
وتحمل سردية "أغنية البوشمن"، من إبداعات جوجو، أحلامًا استثنائية بمذاق الخلود، إذ لا أحد يقوى على محو ذاكرة هذه المجموعة العرقية الصغيرة، وطمس آثارها الباقية على الأرض في موطنها الإفريقي العريق منذ فجر الزمان.
وتذهب الأحلام بعيدًا لتصل إلى ما بعد السماء في أعمال الفنانة نجاة محبوب، ذلك أن الجنة هي التي توجد بعد السماء، وهذه الجنة تبدو كأحلام الأطفال الفلسطينيين وعائلاتهم من المناضلين المستبسلين. وتتحول طاقة الأحلام السحرية إلى نور أزرق في سردية الفنانة فاطمة قاسم، وتقود الأحلام النورانية إلى رحلة لوطن آمن في أعمال الفنانة منة جريش.
وتقيم الفنانة ياسمين مصطفى علاقة "شد وجذب" مع الأحلام في سرديتها القصصية المصورة، فكلنا "عندنا أحلام وطموحات"، ومن أحلامنا "اللي بيكبر معانا، واللي بيتغير، واللي بيختفي"، والذي يتبقى من الأحلام هو الأمل "اللي بنحتاجه علشان نكمل". أما عدو الأحلام الأول فهو الاستسلام لليأس، فعند هذا المنعطف الانهزامي "سهل أوي الأحلام تبقى كوابيس، وحبل النجاة يبقى مشنقة".
وينشد الفنان عمر جاد الطاقة الكامنة في الأحلام لكي لا تصير سرابًا، ويتخذ الفنان أحمد عبد المحسن الأحلام منطلقًا لبلوغ بدايات جديدة.
أما الفنانة مريم لاشين، فإنها تقترح مجموعة اختيارات بشأن الحلم المؤجل، فهل يجفّ مثل زبيب تحت شمس، أم يتقرّح مثل ورم، أم يتعفّن مثل لحم فاسد، أم يتغطّى مثل قطعة حلوى، أم يتدلّى مثل حلم ثقيل، أم يتفجّر؟!
معرض "أين تذهب الأحلام؟"، في مجمله، يقول ببساطة: "لا يمكن للأحلام الواعدة أن تذهب أو تتأجل من دون عودة أو وعدٍ بعودة".
هي مثل روح نقية خالصة، ربما تضيق ذرعًا بمحدودية جسدها وتشظي أعضائه الممزقة، وقد تأسرها معسكرات السراب والظلام والقهر والنزوح والتشتت لبعض الوقت، لكنها لا تغيب بغير رجعة.
"أين تذهب الأحلام؟"، سؤال تفرضه اللحظة القاسية الراهنة، صار عنوانًا لذلك المعرض الجماعي لمبدعي الكوميكس والقصص المصورة والسرديات البصرية والميديا الحديثة، ضمن فعاليات مهرجان وسط البلد الدولي للفنون المعاصرة "دي- كاف" في القاهرة (17 أكتوبر/تشرين الأول-10 نوفمبر/تشرين الثاني 2024).
في شقة فيكتوريا التاريخية في قلب العاصمة المصرية، تنطلق أعمال قرابة ثلاثين فنانًا في المعرض الذي تنظمه "مزج" للثقافة والفنون، من نقطة واحدة، هي نقطة الحلم. لكنّ كل عمل يرى هذا الحلم ويرسمه ويخلقه خلقًا ويتقصّاه ويفسّره على طريقته، وصولًا إلى الإجابة التي لا تكون يقينية أبدًا عن السؤال الافتتاحي الإشكالي "أين تذهب الأحلام؟".
في عالم دموي بائس، وفي خضم الأحداث المأسوية الجارية في فلسطين ولبنان ومناطق متعددة من الكوكب المصبوغ بالضغينة والألم، تتردد سرديات النزوح الكالحة على وجه الخصوص في مواجهة الأحلام، تلك التي راح كثيرون يتشككون في قدرتها على الصمود ومواجهة التآكل والصدأ.
للنازحين والمهجّرين في كل مكان معجمهم الخاص ومعاناتهم المشتركة. لغتهم الواحدة التي يتحدث بها الفلسطينيون واللبنانيون والسوريون، يدركها أيضًا الأوكرانيون، وشعب بوشمن البدائي في صحراء كالهاري الإفريقية، حيث يجري طرد القبائل من موطنهم الأصلي.
هذه اللغة الموصولة بالجرح البدني والنفسي لدى اللاجئين تجعل التساؤل عن مصير الأحلام تشككًا في كل شيء، ليس في الأحلام وجدواها فقط، بل وفي الحياة نفسها ومعناها وقيمتها، وقد غابت عنها العدالة، وانزاحت حقوق الإنسان إلى ما وراء الضباب والغيوم.
في هذه الأجواء، ينسج فنانو معرض "أين تذهب الأحلام؟" رؤاهم المتشابكة عن جوهر الحلم، وحاضره، ومستقبله، على اعتبار أن المستقبل بحد ذاته قد يغدو حلمًا. ومن الفنانين اللافتين المشاركين: منال الحاج، أحمد عبد المحسن، ليلى رمضان، نجاة محبوب، عمر جاد، مريم جمال، مي كريم، فاطمة قاسم، منة جريش، ياسمين مصطفى، مريم لاشين، وغيرهم.
في سرديتها البصرية "يوميات نازح"، تصطدم أحلام الفنانة منال الحاج بالأوضاع المفرطة في القتامة التي يكابدها المهجّرون الفلسطينيون وساكنو خيام الإيواء، في ظل ضعف جهود يونيسف وقلة إمكانات المنظمات الدولية. فمن كل نزوح يكاد يولد نزوح جديد، ومع اختفاء كل حلم، يتضاءل توقع ميلاد حلم جديد، ولكن اليوميات مستمرة في دورانها.
وعلى شاطئ غزة، في سردية الفنانة ليلى رمضان، تُسرق أحلام الأطفال الوردية بأيدي الصهاينة والأغراب، وتذهب إلى التحطيم على شاطئ الإبادة. ولكن هل هذا هو المآل النهائي للأحلام؟ تُصوّر الفنانة مي كريم المستقبل كحلم جديد يأتي من بعيد، حاملًا بداية اسمها "الحياة". فالخلاص قادم، والطيران قادم، والجيش الغاصب الذي استعمر وطنًا لن يستطيع أن يدمّر الحلم، الذي هو الحدث الشخصي الوحيد المملوك لصاحبه وحده، حتى آخر نَفَس من أنفاسه.
وتحمل سردية "أغنية البوشمن"، من إبداعات جوجو، أحلامًا استثنائية بمذاق الخلود، إذ لا أحد يقوى على محو ذاكرة هذه المجموعة العرقية الصغيرة، وطمس آثارها الباقية على الأرض في موطنها الإفريقي العريق منذ فجر الزمان.
وتذهب الأحلام بعيدًا لتصل إلى ما بعد السماء في أعمال الفنانة نجاة محبوب، ذلك أن الجنة هي التي توجد بعد السماء، وهذه الجنة تبدو كأحلام الأطفال الفلسطينيين وعائلاتهم من المناضلين المستبسلين. وتتحول طاقة الأحلام السحرية إلى نور أزرق في سردية الفنانة فاطمة قاسم، وتقود الأحلام النورانية إلى رحلة لوطن آمن في أعمال الفنانة منة جريش.
وتقيم الفنانة ياسمين مصطفى علاقة "شد وجذب" مع الأحلام في سرديتها القصصية المصورة، فكلنا "عندنا أحلام وطموحات"، ومن أحلامنا "اللي بيكبر معانا، واللي بيتغير، واللي بيختفي"، والذي يتبقى من الأحلام هو الأمل "اللي بنحتاجه علشان نكمل". أما عدو الأحلام الأول فهو الاستسلام لليأس، فعند هذا المنعطف الانهزامي "سهل أوي الأحلام تبقى كوابيس، وحبل النجاة يبقى مشنقة".
وينشد الفنان عمر جاد الطاقة الكامنة في الأحلام لكي لا تصير سرابًا، ويتخذ الفنان أحمد عبد المحسن الأحلام منطلقًا لبلوغ بدايات جديدة.
أما الفنانة مريم لاشين، فإنها تقترح مجموعة اختيارات بشأن الحلم المؤجل، فهل يجفّ مثل زبيب تحت شمس، أم يتقرّح مثل ورم، أم يتعفّن مثل لحم فاسد، أم يتغطّى مثل قطعة حلوى، أم يتدلّى مثل حلم ثقيل، أم يتفجّر؟!
معرض "أين تذهب الأحلام؟"، في مجمله، يقول ببساطة: "لا يمكن للأحلام الواعدة أن تذهب أو تتأجل من دون عودة أو وعدٍ بعودة".