السوريون "صدى أصواتنا"...وقد عبَروا كارثة أخرى

علي سفر
الإثنين   2024/11/04
فلاحون، معظمهم من حوران، وجدوا في وادي رم الأردني ملاذاً، لكنها لم تستكن لوضعها (نيك براندت)
في وقت ما، خلال سنوات القتال الدامية في سوريا، كانت الصورة الفوتوغرافية المتوقعة الآتية من هذه البلاد، هي تلك المرتبطة بالحدث، إذ يصبح التركيز كما هي العادة، على الحقيقة المثبتة عبر الصورة.

الدماء كانت غزيرة دائماً، وكذلك الأحوال القاسية، التي تمر بها الشخصيات الآدمية، ضمن تبدلات، تبدأ بالثبات في المكان، وتتوالى، خلال الهروب من الموت، فتمر عبر النزوح واللجوء، بكل ما مر فيهما من مشهديات متنافرة. ففي الحيز الأصلي للسوري، لا يمكن تصور مكانه من دون بناء مدمر في الخلفية، وكذلك فإن رحلة الهروب ستتضمن الطرق المقفرة الوعرة، والبحر بأمواجه المتلاطمة، وصولاً إلى الدروب في أوروبا حيث يصبح اللاجئون الذين يعبرون الحدود، شيئاً غريباً وسط جماليات المكان!

خلال البحث عن الأخبار وصورها، كانت تتوافر لدى المصورين قيم جمالية خاصة، وكان هؤلاء يصنعون ألبوماتهم الخاصة من هذا الحدث ويضيفونها إلى لوائح أعمالهم المهنية.

لكن، وكما هو متوقع، وبعد أن يرسخ النازح/اللاجئ في حياة النزوح أو اللجوء، سيتبدل حاله من الظروف الطارئة، إلى تلك المستقرة، وسيصبح جزءاً من المكان الآخر، الذي يعيش وضعه الاعتيادي، وسط أحوال العالم. فيجري عليه ما يجري على سكان المكان الأصليين.

يبقى الشيء المختلف هنا، أن هذا السوري هو لاجئ، بكل ما تعني الكلمة من حمولة، لا سيما التعلق بالمكان الأول الذي قد يبدو أحياناً، وبسبب النشاط الذهني التعويضي عن الخسارات، أشبه بالفردوس المفقودة.

يعمل المصور البريطاني نيك براندت، على مشروعه الفوتوغرافي "قد يشرق النهار"، وأنجز منه ثلاثة أجزاء: الأول تم تصويره في زيمبابوي وكينيا العام 2020، والثاني صوّر في بوليفيا العام 2022، أما الثالث الذي حمل عنوان "الغرق /الارتفاع" (SINK/RISE) فصُوّر في فيجي العام 2023. ويلتقط براندت حساسية وضع عائلات سورية لاجئة، تعمل في الزراعة في الأردن، ليجعل منه مادة الجزء الرابع، الذي حمل عنوان "صدى أصواتنا" (the echo of our voices).

يشتغل براندت في غالبية ألبوماته، على ثيمة رئيسة هي تأثيرات الإنسان في المناخ، وبينما يتم توصيف العلاقة على أنها تدميرية من جانب واحد، تكشف التجربة هنا أن الأذى يصبح متبادلاً، لكن الضحايا الأشد تأثراً بالأزمات المناخية، لن يكونوا أولئك المترفين الذين لا تهمهم أحوال الطبيعة إلا بمقدار ما يزيد استثمارها من ثرواتهم، بل سيكونون الفئات الأضعف في كل المجتمعات. وإذا كان لا بد من النظر إلى لوحة التأثير بشموليتها، فإن الكائنات الأخرى ستكون مشمولة في دائرة الضحايا التي تتسع لتضم الكوكب كله.

ضمن اتساع رؤية العدسة الفوتوغرافية، فإن التجربة الأولى لمشروع براندت التي صورها في زيمبابوي وكينيا، تُظهر البشر في أحوالهم الساهمة، بعيون ذات نظرات مكسورة، بينما تظهرُ خلفهم، وبشكل دائم، حيوانات الغابة الأفريقية. الحشدان يبدوان وكأنهما يعيشان عزلة إجبارية قاسية وقاتمة، وتتكرر الرؤية ذاتها في التجربة الثانية في بوليفيا ومرتفعاتها الجبلية، فيشترك هذا المكان مع سابقه في إظهار القسوة التي تغلق على البشر وعلى غيرهم آفاق النجاة.



وفي التجربة الثالثة التي أدارها براندت في فيجي، وسط المحيط، اختار أن يكون فضاء العزلة القسرية هو الغرق تحت الأمواج، حيث تنتقل الحياة إلى المكان المغلف بالماء، وكأن هذا العنصر هو إمكانية نجاة، بعد خسارة الأمكنة الأخرى.

في تجربته الجديدة، التي تُعرض نتائجها في أكثر من صالة أوروبية، يؤسس براندت للصورة التي يلتقطها، انطلاقاً من تأثر عمل اللاجئين السوريين في الزراعة، بالتصحر المفروض بيئياً على المنطقة، وعلى بلد ذي موارد مائية شحيحة هو الأردن. لكنه لم يختر فضاء التصوير ضمن المزارع حيث يعملون، بل ذهب بهم إلى صحراء وادي رم، حيث لا تشبه الطبيعة أي مكان أرضي آخر، بل تكاد تكون صورة عن فضاء قمري أو مريخي، لا احتمال لوجود حياة فيه!



هناك، وعلى صناديق خشبية، ستمر شخصيات فلاحية، جاء معظمها من حوران في جنوب سوريا، ووجدت في المكان ملاذاً لها، لكنها لم تستكن لوضعها، وقررت ممارسة العمل الذي تتقنه، أي الزراعة في أراضي المَزارع المحلية.

يهيمن على المشهدية، التي تظهر في صور براندت السورية، عنفوان مختلف عما شهدناه في التجارب الثلاث السابقة. فالمشروع على ما يبدو، لا يتضمن بحثاً عن صور متكررة في الأزمة، بل ينزاح ليجد الاستجابة المختلفة من قبل الآخرين، وهذا ما ظهر في التجربة الثالثة تحت الماء، وها هو يعود في التجربة الرابعة. فهنا يسيطر الإنسان على اللوحة، وبدلاً من أن يأتي البشر متفرقين في مساحاتها، يلوذون ببعضهم البعض فوق الصناديق الضيقة، ويحاول الأطفال الاستناد إلى الأمهات والآباء، بينما ينظر هؤلاء إلى جهتين هما -ربما- الماضي والمستقبل.



لكن الفضاء كله، ورغم الاختلافات، إنما يحيل إلى عزلة مفجعة، يزداد توترها في خلفيات قصص هؤلاء اللاجئين أنفسهم، فهم ليسوا مثل مَن سبقوهم في صور براندت، أي أولئك الذين يخضعون لشرط المناخ في أوطانهم، بل يزيدون على هذا في كونهم يحملون أذية سابقة، تجعلهم يعيشون قلقاً إضافياً، وخوفاً آخر، يجد المشاهد تعبيرات مختلفة عنه، وربما تقوده إلى قراءات تأويلية مغايرة.

هنا، في عمل نيك براندت، يحضر هؤلاء، لا ليكونوا مثالاً آخر على ثيمة مُلحّة، يعمل عليها المصور صاحب المشروع والرؤية، بل ليكونوا عناصر تكوينية، يظهر من خلالهم ذلك الأثر الفظيع لمفارقة الوطن المكان الأصلي، في الكائن البشري. لكن، ورغم القسوة الظاهرة في الملامح، فإن الأثر الذي يبقى في عمق عيون المشاهدين، لا بدّ أن يقول: لقد عبَر السوريون هنا أيضاً وسط كارثة أخرى، تشمل الكوكب كله، وما زالوا يبحثون عن النجاة!