عن الشعور بالأمان ومغامرة الحرّيّة

أسعد قطّان
الأحد   2024/11/03
لوحة لمارك شاغال
"فتذمّر كلّ جماعة بني إسرائيل على موسى وهارون في البرّيّة، وقال لهما بنو إسرائيل: ليتنا متنا بيد الربّ في أرض مصر، إذ كنّا جالسين عند قدور اللحم نأكل خبزاً للشبع. فإنّكما أخرجتمانا إلى هذا القفر لكي تميتا كلّ هذا الجمهور بالجوع".
نقرأ هذا الكلام في الفصل السادس عشر من سفر الخروج. إنّ حكاية هذا السفر هي حكاية الحرّيّة بامتياز، حكاية انعتاق بني إسرائيل من نير فرعون وإصعادهم من أرض مصر على يد موسى النبيّ وأخيه هارون. وتقول الحكاية إنّ العبرانيّين أبصروا بأمّ العين آيات الله في مصر، ومن ثمّ حين عبروا البحر الأحمر، وكيف أنّ الله اجترح معجزةً تلو أخرى بغية إعتاقهم من العبوديّة. لكنّهم أمام تجربة الجوع في الصحراء آثروا العودة إلى نير فرعون، حيث كانوا يأكلون لحماً ويشبعون.
من غير الضروريّ، في هذا السياق، التبصّر في مدى تاريخيّة حكاية الخروج، وقد بات من المعروف أنّ ثمّة مؤرّخين يشكّكون فيها. المهمّ في الموضوع أنّنا نكاد لا نعثر على نصّ آخر في التوراة العبريّة، أو في كتاب العهد القديم كما يسمّيه المسيحيّون، يفصح بهذا المقدار من التحليل السيكولوجيّ الثاقب عن التوتّر الذي يمكن أن يستشعره الإنسان بين الحرّيّة من جهة، وتوقه إلى الأمان من جهة أخرى، حتّى إنّه كثيراً ما يكون مستعدّاً للتخلّي عن حرّيّته في سبيل المحافظة على نوع من الأمان البيولوجيّ، الذي يعبَّر عنه في الحكاية بفكرة الخبز واللحم والشبع. باختصار: أمان المحافظة البيولوجيّة على الذات، أي ما تمليه غريزة البقاء، في مقابل الحرّيّة، وهي أثمن ما يمتلكه الإنسان. 
غير أنّ أزمة تمزّق الإنسان بين قطبي الحرّيّة والإحساس بالأمان لا تفصح عن ذاتها بيولوجيّاً فحسب. والحقّ أنّ النصّ التوراتيّ يدفع الأمور في هذا الاتّجاه لكونه يتوخّى التشديد على راديكاليّة التضادّ بين الأكل والثقة بالله: «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان»، سيقول يسوع المسيح في ما بعد حين يجرّبه إبليس بتجربة الأكل. لكنّ السعي إلى الأمان كثيراً ما يتشكّل أيضاً على مستوًى سيكولوجيًّ صرف، وذلك عبر الركون إلى سرديّة تزوّد الإنسان بتفسير ما لما يجري من حوله، ويحاول هو أن يستمدّ منها معنًى لوجوده. ليس من النادر أن تكون هذه السرديّة غيبيّة الطابع، لكنّها ليست بالضرورة كذلك، إذ يمكنها أن تحيل أيضاً على نظريّة سياسيّة أو اجتماعيّة، أو أن تمزج هذه العناصر جميعها فتجمع بين الغيبيّ والسياسيّ والاجتماعيّ. 
ليس من المعيب في شيء أن يعتصم الإنسان الفرد بسرديّة تعينه على الإحساس بالأمان، فالتوق إلى الأمان شعور طبيعيّ. والطبيعيّ كذلك أن يستعين البشر بسرديّات تسعفهم على فهم العالم من حولهم وتحديد موقعهم فيه. لكن حين تتحوّل هذه السرديّة إلى منظومة فكريّة مطلقة لا تقبل النقد وتستكره المساءلة، تتحوّل إلى إيديولوجيا، بحيث يصبح من يعتنقها عقلاً مؤدلجاً فاقداً المرونة والقدرة على المراجعة. الإيديولوجيا، إذاً، هي ما يودي بالإنسان الفرد، وبالحماعات الإنسانيّة عموماً، إلى فقدان التوازن بين السعي إلى الأمان والتوق إلى الحرّيّة، وتالياً إلى تغليب الأمان على الحرّيّة كما في الحكاية التوراتيّة التي أشرنا إليها أعلاه.

من الواضح أنّ إحدى طبقات النصّ التوراتيّ الذي انطلقنا منه تكمن في أنّ الحرّيّة تقترن بالمغامرة، حتّى إنّه يمكن القول أن لا حرّيّة بلا مغامرة، أو إنّ المغامرة هي صنو الحرّيّة ومرآتها. كاتب النصّ التوراتيّ يوحي بأنّ مشكلة بني إسرائيل في البرّيّة كانت في تفضيل أمان العبوديّة على مغامرة الثقة بالله المرتبطة بالحرّيّة. هذا النوع من الأمان الذي يفتقد إلى المغامرة واختبار الجديد هو بالذات ما تمنحه الإيديولوجيا. فهي، من حيث تحديدها، مطلقة، ترفض التحوّل، ولا تبشّر إلّا بالثابت. وحين يتبدّل الواقع بحيث يكتشف الإنسان أنّ هناك شرخاً ما، وأنّ السرديّة التي يؤمن بها عادت لا تنسجم مع الواقع، عوضاً عن إعادة النظر في الإيديولوجيا، هو كثيراً ما يمعن في الالتجاء إليها مكذّباً الواقع. والحقّ أنّه يقوم بهذا كلّه على الرغم من أنّه يدرك في قرارة نفسه أنّ الواقع أقوى من الأفكار، ما يصيبه في نهاية المطاف بشيء من الفصام في الفكر والسلوك. خلاصة القول، إذاً، أنّ الأفكار جيّدة على قدر ما تخدم الحياة. لكنّها تصبح مؤذيةً إذا استقلّت وصارت لها حياة في ذاتها، وذلك على قدر ما تحول دون أن يحيا البشر حياتهم في ملئها مؤثرين أمان الأفكار على مغامرة الحرّيّة.