فيروز في التسعين: لبنان... بيقولوا مات وما بيموت(2)

محمد دياب
الخميس   2024/11/21
وطني أيها الطفل الصغير".
عطفاً على الحلقة الأولى من مقال "فيروز في التسعين: لبنان.. وعدي إلك وعد الصوت"، هنا الحلقة الثانية والأخيرة.

كانت حقبة الستينيات من القرن العشرين هي الحقبة الذهبية لفيروز والأخوين رحباني صوتاً وشعراً ولحناً، وإن تراجع نتاجهم الفني من جهة الكم على الأقل خلال حقبة السبعينيات كذلك في أعمالهما الوطنية، ربما بسبب الأزمة الصحية التي ألمت بعاصي الرحباني العام 1972 عندما أصيب بنزيف في الدماغ.

قدّمت فيروز نحو عشر أغنيات وطنية للبنان في السبعينيات، أولها كانت القصيدة التي كتبها سعيد عقل ولحنها الأخوان رحباني وحملتْ عنوان "ردني إلي بلادي" وغنّتها ضمن السهرة التلفزيونية "مع الحكايات" من إخراج أنطوان ريمي العام 1971، واستعادتها في حفلاتها في معرض دمشق الدولي 1976 وفي مسرح "أولمبيا" باريس العام 1979 وصولاً إلى حفلتها في دبي العام 2003: "نهرها ككف من أحببت خير وصاد/ شلح زنبق أنا إكسرني على ثرى بلادي".

الأغنية الثانية في حقبة السبعينيات جاءت ضمن المنوعات الغنائية التي قدمت في بعلبك العام  1973 تحت عنوان "قصيدة حب"، وكانت المرة الأخيرة التي تقف فيها فيروز على أدراج بعلبك قبل توقف المهرجان بسبب إشتعال الحرب الأهلية.

جاءت الأغنية بمثابة تحية للمدينة التي تحتضن المهرجان في قلعتها الأثرية، والتي أضحت فيروز عمودها السابع، منذ شرعت في إحياء الليالي اللبنانية على أدراجها في العام 1957، وذلك بعد تحيتها الأولى لها العام 1961 في أغنية "بعلبك أنا شمعة على دراجك" التي قدمتها ضمن المنوعات الغنائية التي حملت اسم البعلبكية": "يا قلبي لا تتعب قلبك وبحبك على طول بحبك/ بتروح كتير وبتغيب كتير وبترجع ع دراج بعلبك"، من كلمات وألحان الأخوين رحباني قدمت في قالب الطقطوقة الشعبية الطربية.


ضمن تلك المنوعات في بعلبك غنّت أيضاً: "الله الله يا تراب عينطورة/ يا ملفى الغيم وسطوح العيد/ ستي من فوق لو فيي زورها/ راحت عالعيد والعيد بعيد". الأغنية تحيّة من الأخوين رحباني لجدتهما "غيتا" التي هي من بلدة "عينطورة"، كما أعادت فيروز في المهرجان نفسه تقديم أغنية "خدني" بتوزيع جديد.

في شتاء 1974 في مسرح البيكاديلّي وضمن المسرحية الغنائية "لولو"، غنّت فيروز من كلمات وألحان الاخوين رحباني "في قهوة عالمفرق"، ويجهل عدد كبير من عشاق فيروز أنّ كلمات الأغنية مقتبسة من قصيدة للشاعر الفرنسي موليير عنوانها "وطني أيها الطفل الصغير"، وهي القصيدة نفسها التي استلهمها الشاعر المصري مصطفى الضمراني، ونظمها في أغنية حملت عنوان "أقوى من الزمن" فلحنها عمار الشريعي وغنّتها شادية العام 1978.

بين فيروز وشادية
الأغنية تتناول نوعين من الحب "حب الوطن" و"حب الحبيب"، الأول دائم والثاني متغير، تقول كلمات أغنية فيروز: "في قهوة عالمفرق في موقد وفي نار/ كنا أنا وحبيبي نفرشها بالأسرار/ جيت لقيت فيها عشاق إتنين زغار/ قعدوا على مقاعدنا سرقوا منا المشوار/ يا ورق الأصفر عم نكبر عم نكبر/ الطرقات البيوت عم تكبر عم تكبر/ تخلص الدني وما في غيرك يا وطني/ بتضلك طفل صغير". 

بينما تقول كلمات أغنية شادية: "لما كنا صغيرين كان لينا مكان صغير دايما تقابلني فيه/ لما كنا صغيرين كان لينا حلم أخضر بقلوبنا عشنا فيه/ ويتغير الزمان يتغير الزمان/ ويتبدل المكان يتبدل المكان/ لكن يا مصر انتي يا حبيبتي زي مانتي/الضحكة الحلوة انتي والحب الباقي إنتي/ وكل شيء يتغير واحنا بنكبر ونكبر ونفارق بعضنا/ وتبقي يا مصر دايما طفل هيفضل صغير بنحبوا كلنا".

في تشرين الثاني 1974 سجلت فيروز بمناسبة عيد الاستقلال أغنيتها الرقيقة "احكيلي عن بلدي إحكيلي" من كلمات وألحان الأخوين رحباني، ولم تصدر الأغنية تجارياً إلا في العام 1978، ضمن إسطوانة حملت عنوان "لبنان الحقيقي جايي" استعادتها فيروز في حفلتها في مسرح "بالاديوم" في لندن في العام نفسه.


الحرب الأهلية
 
كانت أغنية "بحبك يا لبنان" أول أغنية وطنية لفيروز والرحابنة، تقدّم بعد إندلاع الحرب الأهلية اللبنانية في نيسان 1975، وقدمت الأغنية للمرة الاولى ضمن المنوعات الغنائية في حفلاتهم العام 1976 خلال جولات لهم في دمشق وعمان والقاهرة، وتحولتْ في ما بعد إلى ما يشبه النشيد الوطني الجديد للبنان، كانت الإذاعات اللبنانية على إختلاف ولاءاتها الحزبية والطائفية تبثها عشرات المرات في اليوم الواحد.

ولم تخل حفلات لفيروز من أغنية "بحبك يا لبنان"، طوال فترة الحرب الأهلية، إذ غنتها في ختام الحفلة وتعقبها بأغنية سيد درويش "زوروني كل سنة مرة"، غنتها في مسرح "بلاديوم" لندن 1978 وفي مسرح "أوليمبيا" باريس 1979 وفي جولتها في الولايات المتحدة الأميركية وكندا 1981، وفي استراليا 1984 وفي عشرات الحفلات اللاحقة. في هذه الأغنية أعلنت فيروز موقفها سلفاً من بقائها في لبنان طوال فترة الحرب وعدم مغادرته الى مكان آخر حين قالت: "عندك بدي إبقى ويغيبوا الغياب/ إتعذب وإشقى ويا محلا العذاب/ وإذا انت بتتركني يا أغلى الأحباب/ الدنيي بترجع كذبة وتاج الأرض تراب". وفيها أيضاً عبّر الاخوان رحباني عن نظرتهما الرومانطيقية للحرب الأهلية في قولهما: "سألوني شو صاير ببلد العيد/ مزروعة عالداير نار وبواريد/ قلتلن بلدنا عم يخلق جديد/ لبنان الكرامة والشعب العنيد". 

يوم غنتها فيروز في القاهرة العام 1976 في حديقة "الأندلس" على شاطئء النيل، كانت على الضفة الأخرى من النهر قمة عربية عقدتْ خصيصاً من أجل لبنان في مبنى "جامعة الدول العربية". 


قبل تقديمها لعروض مسرحية "بترا" في بيروت العام 1978 في مسرح "كازينو لبنان" وبعدها في مسرح"البيكاديللي"، قدمت فيروز مع الأخوين رحباني أغنية ملحمية حملت قدراً كبيراً من الأمل في إنتهاء الحرب الأهلية في عامها الثالث بعنوان "رجعت العصفورة" أو "لبنان الحقيقي جايي" تبشر بالأمل المنشود، تقول كلماتها: "رجعت العصفورة تعشش بالقرميد/ والسوسنة رجعت تزهر من جديد/ إجت الشتوية إتجمعوا العشاق/ رجعت المدارس أطفال وتلج وعيد/ وطلع السماق ومد جناحوا/ بس اللي راحوا راحوا/ قالوا تهدم وطني الهدير وطني الزمان اللي علم وبني/ وبكيت الدني لكن رح نرجع رح نرجع رح نرجع/ رح نرجع من حرايق رح نرجع من شوارع اللي هدمتها المدافع/ ولبنان الحقيقي جايي لبنان البساطة جايي".

في مسرحية "بترا" أيضاً، قدمت فيروز أغنية "بيقولوا زغير بلدي" للأخوين رحباني، كان المقصود بها في المسرحية مملكة "بترا" حيث لعبت فيروز دور "شاكيلا" ملكة بترا.


لكن كلمات الأغنية أيضا تنطبق على لبنان وهو ما جعل فيروز تستعيدها في حفلات كثيرة منها جولتها في الولايات المتحدة الأمركية 1981، وكان الجمهور يستقبلها بتصفيق حار لتصير أغنية وطنية عن لبنان، تقول كلماتها: بيقولوا زغير بلدي بالغضب مسور بلدي/ الكرامة غضب والمحبة غضب والغضب الأحلي بلدي/ بيقلوا قلال ومنكون قلال بلدنا خير وجمال/ بيقلوا يقلوا شوهم يقولوا شوية صخر وتلال/ ياصخرة الفجر وقطر الندي يا بلدي/ يا طفل متوج عالمعركة غدي يا بلدي/ يا صغير وبالحق كبير وما بيعتدي يا بلدي".

في العام 1978 أحيت فيروز حفلة في مسرح "بالاديوم" في لندن حيث قدمت فيه أغنية كتبها ولحنها الأخوان رحباني عنوانها "سكروا الشوارع"، وحملت صورة امتزجت فيها النوستالجيا بالحب والحرب في أجواء بيروت خلال الحرب الأهلية، تقول كلماتها: "سكروا الشوارع عتموا الشارات/ زرعوا المدافع هجروا الساحات/ وينك يا حبيبي بعدك يا حبيبي/ صرنا الحب الصارخ/ صرنا المسافات اشتقنا للإيام السعيدة/ إيام السهر عالطريق/ عجة سير ومشاوير بعيدة/ ونتلاقي بالمطعم العتيق/ يا هوى بيروت يا هوى الإيام/ إرجعي يا بيروت بترجع الإيام".

إستعادتها فيروز في حفلاتها في مسرح "الأولمبيا" وفي إمارة الشارقة 1979 وفي جولتها الأميركية 1981. لحن الأغنية يقترب كثيراً من أجواء "حبيتك بالصيف". خلال حفلتيها في "أوليمبيا" قدمت فيروز آخر أغنياتها الوطنية مع الأخوين رحباني "باريس يا زهرة الحرية"، قبل إنفصالها عنهما فنياً بعد أسابيع من عودتهم من باريس، وكانت فيروز في حديث إذاعي لها مع حكمت وهبي لراديو "مونت كارلو" قبل أسابيع من الحفلتين، قد ألقت كلمات الأغنية، ما يدحض معلومة شائعة تقول إن عاصي الرحباني كتب كلماتها في الطائرة وهم في طريقهم إلى باريس.


افتتحت فيروز الحفلتين بالأغنية التي مزجت التحية بالشكوى إلى مدينة باريس وفرنسا من قلب لبنان الموجوع جاء فيها: "باريس يا زهرة الحرية يا دهب التاريخ يا باريس/ لبنان باعتلك بقلبي سلام ومحبة/ وبيقلك لبنان راح نرجع ونتلاقى/ عالشعر وعالصداقة/ عالحق وكرامة الانسان/ يا فرنسا شو بقلن لأهلك عن وطني الجريح/ عن وطني اللي متوج بالخطر وبالريح/ قصتنا من أول الزمان يتهدم لبنان يتجرح لبنان/ بيقولوا مات وما بيموت/ وبيرجع من حجارو يعلى بيوت/ وتتزين صور وصيدا وبيروت".