فيروز في التسعين: لبنان...وعدي إلك وعد الصوت

محمد دياب
الأربعاء   2024/11/20
كانت أغنية "لبنان يا أخضر حلو ع تلال" أول أغنية وطنية لبنانية تنشدها فيروز
ظل صوت فيروز مرهماً لأحزان الشعب اللبناني، وأحد أهم رموز الوطنية التي تذكرهم بأيام عز لبنان، في عصره الذهبي خمسينيات وستينيات القرن العشرين وحتى منتصف سبعينياته. ومع بداية العدوان الإسرائيلي على لبنان، نشط جمهور السوشيال ميديا في تداول أغنيات المطربة الكبيرة التي نحتفي غداً بعيدها التسعين (تتفاوت المصادر في تحديد يوم مولدها بين 20 و21 تشرين الثاني 1934)، من "إسوارة العروس" التي قدمتها للجنوب مروراً بـ"لبيروت" و"راح نبقى سوا"، وكان من نتاج هذا العدوان للأسف قصف فندق "بالميرا" حيث كانت تقيم فيروز خلال إحيائها مهرجانات بعلبك منذ 1957 وحتى 2006 عندما شرعت في بروفات مسرحية "صح النوم" التي أوقفها العدوان الإسرائيلي على لبنان آنذاك.

غنت لبنان في السراء والضراء، لم تتركه إلى أرض غريبة في أوج خطره، حتى بات صوتها رمزاً وحّد المتقاتلين في جحيم الحرب الأهلية، حين إجتمعت على صوتها كل الأحزاب والطوائف المتناحرة، وإختلفوا على كل شئ سوى أن صوتها هو الباعث الوحيد على الأمل في الخلاص، هو حامل الشمعة في نهاية النفق المظلم. أثناء الحرب، هدهدهم صوتها كما في "ع إسمك غنيت"، ثم تحوّل أحياناً ناقوس خطر يقرع على الضمائر صارخاً: "الويل لأمة كثرت فيها طوائفها وقل فيها الدين/ والويل لأمة مقسمة وكل ينادي أنا أمة". كان صوتها يخرج من تحت الرماد كما طائر الفينيق صادحاً: "هدمت الحروب المدن وعمروها اللي بيقوا/ بدنا نكمل المشوار كتار قلال منكون شو هم منكمل باللي بقيوا"، وإذا ما لاحت بارقة أمل في النجاة، صدح صوتها: "لكن راح نرجع، راح نرجع من شوارع، راح نرجع من حرايق، وهزيمة هالمدافع"، و"بيقولوا مات وما بيموت، وبيرجع من حجارو يعلي بيوت".



كيف تغنت فيروز بلبنان وكيف تحدثت عنه في أغانيها الرحبانية وعبر مسيرتها الفنية؟
هنا رصد للغالب الأعظم من الأغنيات الفيروزية عن لبنان والتي قدمتها على مدى نحو سبعين عاماً من مسيرتها الفنية منذ 1950 وحتى 2017. 

لبنان يا أخضر حلو 
ردّدت فيروز في بداياتها الكثير من الأناشيد الوطنية الحماسية خلال التحاقها بفرقة الأخوين فليفل، غير أنه لا تسجيل صوتياً واحداً لأي من تلك الأناشيد التي كانت الإذاعة اللبنانية تبثها على الهواء مباشرة. من بينها "نشيد الشجرة" الذي يعدّ أول عمل غنائي تشارك فيه فيروز، حيث أفرد لها الفنان محمد فليفل مقاطع تغني فيها منفردة. وبعد إلتحاقها بالإذاعة اللبنانية بفترة قصيرة ضمن فتيات الكورس العام 1950، نقلها حليم الرومي إلى صفوف المطربات المنفردات (السولويست)، ومن بين ما لحنه لها نشيد وطني بعنوان "يا بلادي"، حسبما ورد في مذكرات الرومي، وربما كان أول نشيد وطني بصوتها منفرداً. لا تسجيل لهذا النشيد اليوم بصوت فيروز، لأن الأعمال وقتها كانت تبث بشكل حيّ، والأمر نفسة ينطبق على قصيدة وطنية لحنها لها حليم الرومي من شعر نجيب الليان عنوانها "مواكب الحق"، يقول بعض أبياتها: "لبنان يا معقل الأحرار ياوطنا/ هان الزمان على البلوى وما هان".

في مرحلة البدايات الأولى، قدمت فيروز أعمالاً وطنية أخرى مثل قصيدة إيليا أبو ماضي "وطن النجوم أنا هنا حدق أتعرف من أنا" من ألحان خالد أبو النصر، وكان الشاعر قد نظمها لدى عودته الى لبنان من بلاد الإغتراب. وأغنية أخرى عنوانها "بقعة الضوء" أو "كرمة الضوء" من كلمات وألحان الأخوين رحباني، وبحسب الباحث محمود الزيباوي سجلت هذه الأغنية تقريباً في العام 1952، ويقول مطلعها: "لبنان يا لؤلؤة المشرق/ لبنان يا دنيا من الزنبق/ تسبح في حدود عالم/ عند حدود الأفق الأزرق".

في المرحلة نفسها قدمت فيروز قصيدة "عودة القمر" 1954 من شعر ناجي معلوف، وغنتها على إيقاع الفالس من ألحان الأخوين رحباني التي تقول فيها: "هوذا نيسان عاد إلى لبنان/ وإنثر القبل من ذرى الجبل يا قمر"، كما  قدمت مغناة "هذي الربى والجان" من كلمات وألحان الأخوين رحباني، وجاء في بعض أبياتها: "لبنان تلك القمم البيضاء تموج بألألوان والضياء/ دمت يا لبنانا الحبيب أيها الساكن في القلوب/ يا ربوع العز والإباء يا جنان الأنس والهناء/ على شفاه الزمان أنشودة من أمان وروعة وإمتثال".

قدمت فيروز مجموعة أخرى من الأغنيات تتغني بالسهول والوديان والكروم والوطن من دون تحديد، مثل "وطني سماؤك حلوة الألوان"، "تلك القرى يا سحرها"، "موطن القمر"، و"يا طيب زهرك يا مروج بلادي"، و"ع سفح الوادي الاخضر"، و"يا ليل بلادي" و"عن جبال في الغيم" التي غنتها في معرض دمشق الدولي 1959.

كانت أغنية "لبنان يا أخضر حلو ع تلال" أول أغنية وطنية لبنانية تنشدها فيروز في حفلة عامة أمام جمهور غفير، وكان ذلك في مهرجان بعلبك 1957، من كلمات وألحان الأخوين رحباني. ليلتها وقفت فيروز على قاعدة عمود أثري والأضواء مسلّطة عليها فبدت وكأنها آتية من حكاية أسطورية.

بعدها بأربعة أعوام (1961)، غنّت فيروز لبنان في بعلبك أيضاً خلال المنوعات الغنائية التي قدمتها مع الأخوين رحباني تحت عنوان "البعلبكية"، فقدمت لوحة مثيولوجية بعنوان "رحيل الآلهة عن بعلبك"، قدمت خلالها أغنية "بعلبك أنا شمعة على دراجك "وغنتْ أيضاً "خدني على تلاتنا هالحلوين"، التي تنهيها بجملة "خدني إزرعني بأرض لبنان"من شعر ولحن الأخوين رحباني، والتي أصبحت جملة أيقونية، رافقت هذه الأغنية فيروز في حفلاتها حتى تسعينيات القرن العشرين.

في العام نفسه، غنّت فيروز في حفلة تتويج الشاعر الأخطل الصغير على إمارة الشعر العربي، قصيدتان من ألحان الأخوين رحباني، واحدة للأخطل الصغير "يا نسيم الدجى"، والثانية لنجله المحامي والشاعر عبدالله الاخطل بعنوان "ملعب الأحلام" والمقصود بالملعب هو لبنان، غنتها بمصاحبة عزف على آلة البيانو فقط للعازف بوغوص جلاليان في مسرح "اليونيسكو" في بيروت، وتقول في بعض أبياتها: "من رأى النجمة تهوى من فم الأفق لفم/ كلما رفت على ثغرك باهي وإبتسم/ بعض هذا التيه يا لبنان فالدنيا قسم".

قدمت فيروز أيضاً في تلك الآونه أغنية بديعة عنوانها "أنا وبلادي هناء" من كلمات وألحان الاخوين رحباني، في مناسبة عيد الإستقلال، وفي تشرين الثاني 1963 قدمت للإذاعة في عيد الاستقلال أيضاً، أغنية "عالي الشمايل" التي تقول فيها للبنان: "عالي الشمايل وإتعلى حلو الخصايل وإتجلى/ ويا برج الصامد يا سيف الطايل عافى الله/ والدهر الغارس لأزراتك حارس طلت فوراس صهلت أصايل" من كلمات وألحان الأخوين رحباني.

تحية إلى الجيش اللبناني
بعد محاولة الانقلاب الفاشلة التي قام بها "الحزب السوري القومي الإجتماعي" ضد الرئيس اللبناني فؤاد شهاب ليلة رأس السنة 1961-1962، قدمت فيروز في 29 كانون الأول 1962، حفلة بعنوان "يوم الوفاء" في مسرح سينما "كابيتول" في بيروت، حيث قدم الأخوان رحباني مع فيروز الأوبريت الغنائي "عودة العسكر"، افتتحت فيروز الحفلة بقصيدة الأخطل الصغير "بيروت هل ذرفت عيونك دمعة إلا ترشفها فؤادي المغرم" وكانت المرة الأولى التي تغني فيها فيروز في بيروت لبيروت، غنت لتمسح دموعها، وذهب ريع الحفلة الى أسر شهداء الجيش اللبناني الذين سقطوا في تلك الواقعة.

في حين جاءت مغناة "عودة العسكر" تحية للجيش اللبناني وتضمنت أغاني "معافي يا عسكر لبنان يابو زنود المسمية/ وتغاوى أرزة لبنان فوق جبال الحرية" و"هللي عالريح ياريتنا العالية/ عز وتلويح أرزتنا اللبنانية"، و"برجك عيد بالبيارق طاير" و"الله محيي عسكرنا" و"بتتلج الدني بتشمس الدني/ ويالبنان بحبك تاتخلص الدني/ بخبيك بعينية وبقلك غنية/ تلجك المحبة وشمسك الحرية"، وللشهيد غنت "لا تخافي سالم غفيان مش بردان/  نايم ع تلة بتضل تصلي/ بقلبه الإيمان وناطر زهر اللوز بنيسان" التي إستعادتها فيروز في حفلاتها في "بيت الدين" مطلع الألفية الثانية.

وصدرت المغناة في اسطوانة في ما بعد، وضمت كذلك أغنية وطنية سجلت بشكل مستقل هي: "حلياني الدنيي حلياني بلبنان الأخضر"، والأغنيات كلها كانت للأخوين رحباني شعراً ولحناً.

في العام التالي 1963 وقبل تقديم فيروز لأوبريت "الليل والقنديل" في "تياترو لبنان" في بيروت، شدت بأغنيتها الرقيقة: "يا مينا الحبايب يا بيروت/ يا شط اللي دايب يا بيروت/ يا نجمة بحرية عم تتمرجح ع الميه/ يا زهرة الياقوت يا بيروت" من كلمات وألحان الأخوين رحباني.

أحيت فيروز مهرجانات الأرز الدولية لأول مرة العام 1964 حيث قدمت أوبريت "بياع الخواتم" وافتتحتها بأغنية "من تحت هالأرزة"، من كلمات وألحان الأخوين رحباني، والأغنية تحية إلى اللبنانيين في دول المهجر ممن رفعوا اسم لبنان عالياً، ومنهم الأديب جبران خليل جبران الذي ولد في بلدة بشري القريبة من غابة الأرز حيث يقام المهرجان: "من تحت ها الأرزة لآخر هالدني/ نهر الرجال يسافر ويسقي الدني/ إيدين وين ما كان عم تشقع الحيطان / تكتب إسم لبنان بكل أرض ملونة/ من تحت ها الأرزة لآخر هالدني".

في العام التالي 1965 أحيت فيروز مهرجاناً في "بيت الدين" تحت عنوان "أضواء"، وفيه غنتْ للبنان: "بعدك بقلبي وردة الوردات ومفتحة ورقة على روقة/ لأنقش على ترابك الغنيات علق ع بابك خرزتي الزرقة" في حضور الرئيس اللبناني الأسبق شارل حلو، الذي قلدها وساماً رفيعاً. ولعل السعادة كانت تغمر قلب فيروز وقتها، ولم لا؟ فوالدها كان يعمل في مطبعة جريدة "لوجور" التي ترأس تحريرها شارل حلو، قبل أن يصبح رئيساً للجمهورية اللبنانية.

ظلت الأغنيات الأربع: "يا مينا الحبايب" و"بيروت هل ذرفت" و"من تحت هالأرزة" و"وردة الوردات" رغم مستواها الفني البديع، مجهولة لسنوات طوال، حتى أعادتها للحياة مجددا شركة عبد الله شاهين وأصدرتها ضمن إسطوانتي "فيروز معكم" و"فيروز سفيرة العرب" منتصف تسعينيات القرن الماضي.

"إسكر بإسمك مجد يا لبنان"
من بين لبنانيات فيروز الوطنية منتصف ستينيات القرن الماضي تأتي الأغنية الأيقونة "ع اسمك غنيت"  1966، كإحدى روائع وطنياتها، الأغنية التي كتبها ولحنها الأخوان رحباني جاءت بمثابة صلاة تنشدها فيروز في معبد لبنان: "ع إسمك غنيت ع إسمك راح غني/ ركعت وصليت والسما تسمع مني/ ع تلالك ع جبالك ركعت وصليت/ هوني السما قريبي بتسمعنا يا حبيبي"، إلى أن تصل للقول: "وإحمل با يدي كاسك المليان/ وارفعو لفوق لمطرح اللي بيقوف الزمان/ وإسكر باسمك مجد يالبنان". لحن الأغنية يشبه كثيراً لحن أغنية "أغنيتي إليك أغنية الطريق في المغيب" وعلى الإيقاع ذاته، وكان قدمها الاخوين رحباني بصوت فيروز ضمن اللوحة الغنائية "حصاد ورماح" عن فلسطين خلال حفلاتهم في الأردن العام 1963. وفي مهرجانات بعلبك 1966، قدمت فيروز مع الأخوين رحباني، الأوبريت الغنائي "إيام فخر الدين"، وهو أضخم عمل وطني ملحمي قدمه الأخوان وفيروز، وضم العمل أكثر من أغنية وطنية بديعة، واحدة منها تحولت الى أيقونة هي "دبكة لبنان" وهناك إيضاً "وعدي إلك" التي تعلن فيها فيروز أنها نذرت صوتها حياتها وموتها لمجد لبنان، وهي من أبدع أغانيها الوطنية غير المنتشرة: "وعدي الك، وعد الصوت، بغنيلك وخلي الدني تغنيلك وندروني إلك، أنا إلو للوافق بالزمان بندر صوتي حياتي وموتي لمجد لبنان".

من بين أغنيات "فخر الدين" أيضاً هناك أغنية كانت تبثها الإذاعات العربية خلال حربي 1967 و1973 وهي أغنية "خطت قدمكن"، التي تحيي خطوات الجنود إلى المعركة  "خطت قدمكن عالأرض هدارة أنتوا الأحبة وإلكن الصدارة"، وقيل إن السلطات السورية إختارتها لتكون شفرة البدء في حرب تشرين الثاني/أكتوبر 1973. 

في النصف الثاني من ستينيات القرن العشرين، قدّمت فيروز أربع أغنيات للبنان. الأولى هي "وطني يا جبل الغيم الأزرق" كلمات وألحان الأخوين رحباني، سجلتها في العام 1967، ثم صورتها تلفزيونياً ضمن سهرة حملت عنوان "دفاتر الليل" العام 1968،  وفي العام التالي أعادت تقديمها بالتسجيل نفسه ضمن مسرحية "جبال الصوان" في مهرجان بعلبك، وهي أغنية حالمة تنتمي إلى أجواء اغاني "خدني على تلاتنا الحلوين" و"ع إسمك غنيت": "وطني يا جبل الغيم الأزرق/ وطني يا قمر الندي والزنبق/ يا بيوت اللي بيحبونا/ يا تراب اللي سبقونا/ يا زغير ووسع الدني يا وطني". أما الأغنية الثانية جاءت حالمة ورقيقة وشعبية، ما جعلها تعيش في الوجدان إلى يومنا هذا وهي أغنية "نسم علينا الهوى من مفرق الوادي" التي غنتها ضمن فيلم "بنت الحارس" إخراج هنري بركات العام 1968 من كلمات وألحان الأخوين رحباني.

والثالثة كانت "قصيدة لبنان" التي سجلتها لمناسبة عيد الإستقلال في تشرين الثاني 1969 وأنشدتها في مهرجانات الأرز الدولية في ذلك العام، وهي من أشعار سعيد عقل وألحان الاخوين رحباني، ثم صورتها بعد سنوات تلفزيونياً ضمن سهرة "قصيدة حب" 1974، والقصيدة هي من أروع ما كتب سعيد عقل وغنت فيروز في حب لبنان، وضع لها الاخوان رحباني لحناً شرقياً صميماً: "أهلي ويغلون يغدو الموت لعبتهم/ إذا تطلع صوب السفح عدوان/ من حفنة وشذا أرز كفايتهم/ زنودهم إن تقل الأرض أوطان/ هل جنة الله إلا حيث ما هنئت/ عيناك كل إتساع بعده بهتان/ هنا على شاطئ أو فوق عند ربا/ تفتح الفكر قلت الفكر نسيان/ كنا ونبقى لأنا المؤمنون به/ وبعد فليسع الأبطال ميدان/ لي صخرة علقت بالنجم أسكنها/ طارت بها الكتب قالت تلك لبنان"
- يتبع-