فلسطينيون وإسرائيليون معاً: هذه ليست قصة حب
كالعادة، في مطلع الشهر، تصفحتُ برامج المراكز الثقافية اللندنية وفي برنامج مركز "ساوث بانك" الواقع على الضفة الجنوبية لنهر التايمز، ولفتت نظري حفلة للموسيقى الكلاسيكية في الرابع من الشهر الجاري. كانت الحفلة للأوركسترا "الديوان الغربي الشرقي"، وهي الفرقة التي تحمل اسم مجموعة شعرية ليوهان غوته، وكان قد أسسها إدوارد سعيد مع الموسيقي الإسرائيلي الأرجنتيني دانييل بارنبويم، في العام 1999، لتجمع موسيقيين من فلسطين وإسرائيل وعرب من جنسيات أخرى، وذلك تحت شعار "متساوون بالموسيقي"، الشعار الذي بدا حينها رومانسياً ولا يمكن له أن يكون اليوم إلا مستحيلاً.
ذكّرني إشهار الحفلة، بالصداقة الطويلة بين سعيد وبارنبويم، وهي صداقة تنتمي إلى زمن آخر، وذكرني أيضاً بكتابهما معاً، "نظائر ومفارقات: استكشافات في الموسيقى والمجتمع"، وبالتنويه المتناقض الذي أصدرت به "دار الآداب" ترجمتها العربية للكتاب في العام 2005، المعني بـ"توضيح أن نشر هذا الكتاب لا يعد تراجعاً عن موقفها الرافض لأي نشاط مع اليهود الإسرائيليين على أختلافهم". منذ تأسيسها، لطالما طاردت الفرقة وحفلاتها وصمة التطبيع، أما بارنبويم فصرح ذات مرة بعد وفاة سعيد بأن "هذه ليست قصة حب وليست قصة سلام، بل محاولة للتغلب على الجهل".
ثمة شيء مقبض ومثير للحيرة بشأن الحفلة وموعدها. كيف يمكن لهؤلاء الموسيقيين، على خلفية المذبحة الدائرة، أن يجلسوا جنباً إلى جنب أمام جمهور، ويعزفوا معاً السيمفونية الرابعة لماندلسون، المعروفة بالسيمفونية الإيطالية، الأشبه بتدوين موسيقي ليوميات رحلة المؤلف في إيطاليا وسعادته تحت الشمس المتوسطية؟ وكيف ينتقلون بعدها إلى عزف السيمفونية الرابعة والأخيرة لبرامس، المستوحاة على الأغلب من تراجيديا سوفكليس التي كان منكباً على دراستها في ذلك الوقت؟ أي رباطة جأش، أو لا مبالاة، وأي قدر من الشجاعة أو الرياء، يستلزمه فعل ذلك؟ وما المنتظر أو الممكن تحقيقه؟ لعل الإجابة تكمن في الصرامة الأقرب إلى القمع، التي تميز الأوركسترا الكلاسيكية، أو لعلها في شيء آخر خارجها.
تخيلتُ أني قد أشعر بثقل في هواء القاعة، وجوم أو توتر ما، يغلف لحظات الصمت بين حركة موسيقية وأخرى، ولعلني أجد فيه الإجابة. وبعد ساعة من التردد، قررت ألا أحجز تذكرة للحفلة، كوني لا استمتع كثيراً بموسيقى الرومانتيكية الألمانية.
في الأسبوع نفسه، انطلق في بريطانيا العرض التجاري للفيلم الوثائقي "لا أرض أخرى"، من إخراج الرباعي المكوّن من فلسطينيَين اثنين، هما باسل عدرا وحمدان بلال، وإسرائيليَين، هما يوفال أبراهام وراحيل سزور. يوثق الفيلم سياسات انتزاع الأراضي والتهجير الممنهجة التي تمارسها السلطات الإسرائيلية ضد سكان قرى منطقة مسافر يطا في الضفة الغربية منذ العام 2019 وحتى العام الماضي.
عبر كاميرا عدرا، نعاين التفاصيل المؤلمة والثقيلة، لعمليات الهدم الدوري للبيوت والاستيلاء على مولدات الكهرباء وسدّ الآبار بالأسمنت، وإزالة المدارس بالجرافات بينما يقفز تلاميذها الصغار من الشبابيك في هلع، وكذا اقتحامات البيوت في الليل، وإطلاق النار على الاحتجاجات السلمية. تلك كلها عناصر قصة يعرفها الجميع. لكن ما يسجله الفيلم أيضاً، بقصد أحياناً، وربما عن غير قصد أحياناً أخرى، هو وجود أبراهام الصحافي والناشط الإسرائيلي في القرية الفلسطينية، وخليط التردد والشك والترحاب، وأحياناً الامتنان، الذي يُقابل به هناك، هذا غير التهديدات التي يتعرض لها من أقرانه الإسرائيليين. نتابع أيضاً العلاقة التي تنمو بينه وبين عدرا، فحين تتوقف الكاميرا عن تسجيل بشاعات الاحتلال، نراهما معاً تحت السماء الواحدة، يتناقشان أو يتسامران بينما يدخن عدرا أرجيلته، أو يأكلان معاً، أو يمزحان بشأن رغبتهما في الرحيل والعيش في بلد آخر.
هذه أيضاً ليست قصة سلام وليست قصة حب، بل قصة للفصل العنصري. في نهاية اليوم، ينطلق أبراهام بمفرده للعودة إلى بيته، عبر الطريق المسموح فيه بمرور السيارات ذات اللوحات الإسرائيلية فقط، يبقى عدرا في مكانه فهو لا يمكنه العبور إلى الجهة الأخرى.
يحظى الفيلم بخاتمتين كئيبتين، حيث ينتهي نضال سكان مسافر يطا، الطويل، والعمل الدؤوب والمشترك بين عدرا وأبراهام من أجل نقل الحقيقة إلى العالم، بفرار الأهالي بفعل اعتداءات المستوطنين المتصاعدة بعد السابع من أكتوبر. أما الإنجاز الأكبر للفيلم الذي فاز بجائزة مهرجان برلين لأفضل فيلم وثائقي في دورة هذا العام، فقد أفسدته تصريحات وزيرm الثقافة الألمانية، التي قالت أن تصفيقها بعد الكلمة المشتركة لعدرا وأبراهام، كان موجهاً للمخرج الإسرائيلي وحده دون الفلسطيني، وهو ما لا يمكن وصفه سوى بأنه نوع من الأبرتهايد الثقافي.
أعود إلى إشهار الحفلة الموسيقية، من أجل كتابة هذا المقال، لأكتشف أن بارنبويم- الذي كان قد أعلن احتجابه قبل عامين بسبب إصابته بمرض عصبي خطير- كان سيقود الأوركسترا بنفسه. شعرت ببعض الندم على عدم الحضور، ربما كانت تلك آخر فرصة لرؤيته على الخشبة.
ذكّرني إشهار الحفلة، بالصداقة الطويلة بين سعيد وبارنبويم، وهي صداقة تنتمي إلى زمن آخر، وذكرني أيضاً بكتابهما معاً، "نظائر ومفارقات: استكشافات في الموسيقى والمجتمع"، وبالتنويه المتناقض الذي أصدرت به "دار الآداب" ترجمتها العربية للكتاب في العام 2005، المعني بـ"توضيح أن نشر هذا الكتاب لا يعد تراجعاً عن موقفها الرافض لأي نشاط مع اليهود الإسرائيليين على أختلافهم". منذ تأسيسها، لطالما طاردت الفرقة وحفلاتها وصمة التطبيع، أما بارنبويم فصرح ذات مرة بعد وفاة سعيد بأن "هذه ليست قصة حب وليست قصة سلام، بل محاولة للتغلب على الجهل".
ثمة شيء مقبض ومثير للحيرة بشأن الحفلة وموعدها. كيف يمكن لهؤلاء الموسيقيين، على خلفية المذبحة الدائرة، أن يجلسوا جنباً إلى جنب أمام جمهور، ويعزفوا معاً السيمفونية الرابعة لماندلسون، المعروفة بالسيمفونية الإيطالية، الأشبه بتدوين موسيقي ليوميات رحلة المؤلف في إيطاليا وسعادته تحت الشمس المتوسطية؟ وكيف ينتقلون بعدها إلى عزف السيمفونية الرابعة والأخيرة لبرامس، المستوحاة على الأغلب من تراجيديا سوفكليس التي كان منكباً على دراستها في ذلك الوقت؟ أي رباطة جأش، أو لا مبالاة، وأي قدر من الشجاعة أو الرياء، يستلزمه فعل ذلك؟ وما المنتظر أو الممكن تحقيقه؟ لعل الإجابة تكمن في الصرامة الأقرب إلى القمع، التي تميز الأوركسترا الكلاسيكية، أو لعلها في شيء آخر خارجها.
تخيلتُ أني قد أشعر بثقل في هواء القاعة، وجوم أو توتر ما، يغلف لحظات الصمت بين حركة موسيقية وأخرى، ولعلني أجد فيه الإجابة. وبعد ساعة من التردد، قررت ألا أحجز تذكرة للحفلة، كوني لا استمتع كثيراً بموسيقى الرومانتيكية الألمانية.
في الأسبوع نفسه، انطلق في بريطانيا العرض التجاري للفيلم الوثائقي "لا أرض أخرى"، من إخراج الرباعي المكوّن من فلسطينيَين اثنين، هما باسل عدرا وحمدان بلال، وإسرائيليَين، هما يوفال أبراهام وراحيل سزور. يوثق الفيلم سياسات انتزاع الأراضي والتهجير الممنهجة التي تمارسها السلطات الإسرائيلية ضد سكان قرى منطقة مسافر يطا في الضفة الغربية منذ العام 2019 وحتى العام الماضي.
عبر كاميرا عدرا، نعاين التفاصيل المؤلمة والثقيلة، لعمليات الهدم الدوري للبيوت والاستيلاء على مولدات الكهرباء وسدّ الآبار بالأسمنت، وإزالة المدارس بالجرافات بينما يقفز تلاميذها الصغار من الشبابيك في هلع، وكذا اقتحامات البيوت في الليل، وإطلاق النار على الاحتجاجات السلمية. تلك كلها عناصر قصة يعرفها الجميع. لكن ما يسجله الفيلم أيضاً، بقصد أحياناً، وربما عن غير قصد أحياناً أخرى، هو وجود أبراهام الصحافي والناشط الإسرائيلي في القرية الفلسطينية، وخليط التردد والشك والترحاب، وأحياناً الامتنان، الذي يُقابل به هناك، هذا غير التهديدات التي يتعرض لها من أقرانه الإسرائيليين. نتابع أيضاً العلاقة التي تنمو بينه وبين عدرا، فحين تتوقف الكاميرا عن تسجيل بشاعات الاحتلال، نراهما معاً تحت السماء الواحدة، يتناقشان أو يتسامران بينما يدخن عدرا أرجيلته، أو يأكلان معاً، أو يمزحان بشأن رغبتهما في الرحيل والعيش في بلد آخر.
هذه أيضاً ليست قصة سلام وليست قصة حب، بل قصة للفصل العنصري. في نهاية اليوم، ينطلق أبراهام بمفرده للعودة إلى بيته، عبر الطريق المسموح فيه بمرور السيارات ذات اللوحات الإسرائيلية فقط، يبقى عدرا في مكانه فهو لا يمكنه العبور إلى الجهة الأخرى.
يحظى الفيلم بخاتمتين كئيبتين، حيث ينتهي نضال سكان مسافر يطا، الطويل، والعمل الدؤوب والمشترك بين عدرا وأبراهام من أجل نقل الحقيقة إلى العالم، بفرار الأهالي بفعل اعتداءات المستوطنين المتصاعدة بعد السابع من أكتوبر. أما الإنجاز الأكبر للفيلم الذي فاز بجائزة مهرجان برلين لأفضل فيلم وثائقي في دورة هذا العام، فقد أفسدته تصريحات وزيرm الثقافة الألمانية، التي قالت أن تصفيقها بعد الكلمة المشتركة لعدرا وأبراهام، كان موجهاً للمخرج الإسرائيلي وحده دون الفلسطيني، وهو ما لا يمكن وصفه سوى بأنه نوع من الأبرتهايد الثقافي.
أعود إلى إشهار الحفلة الموسيقية، من أجل كتابة هذا المقال، لأكتشف أن بارنبويم- الذي كان قد أعلن احتجابه قبل عامين بسبب إصابته بمرض عصبي خطير- كان سيقود الأوركسترا بنفسه. شعرت ببعض الندم على عدم الحضور، ربما كانت تلك آخر فرصة لرؤيته على الخشبة.