المناحة الكبرى

فوزي ذبيان
الجمعة   2024/10/04
من المضني أن لا نوقّع فوق نصّ العالم إلا بحبر الدموع (علي علوش)
لا تني الأيام تؤكّد في هذه البلاد أن الطقس الأكثر تجذراً هو طقس النواح. فكل الملامح ملتبسة في هذه البلاد، إلا ملامح النواح. مناحة كبرى لا تنفكّ تزاحم أيامنا وقد أنتجت مكانها الملائم في الأفئدة وتعابير الوجوه وفي الأذهان. ثمة مناحة لا تنتهي ترسم لنا، يوماً بيوم، تلك الحدود الغائمة بين الموت والحياة. لا نشتمل على حظ من الفرح إلا من باب الصدفة، ولا تسري فينا تلك الرغبة العميقة بالحياة إلا متلازمة مع الصوت الخافت للنواح. فالمناحة، المناحة الكبرى، هي على الدوم المشهد الأول والأخير في هذه البلاد. نجترح الحاجة البخسة للنصر "وننتصر"! نتسقّط أخبار الفخار ونفتخر، بيد أن درب المناحة هو الذي يعود ليهندس مآرب فخرنا وانتصاراتنا الكثيرة.

نستنطق الحاجة إلى الخوف، نتعقّب كل دروب الموت كي ننوح كي نذرف الدمع... هذا الدمع المتدفق كنهر في إمبراطورية النواح التي نعيش دقائقها.

تكتسي ملامحنا بالألم مع كل شارة نصر. نقف فوق ركام المنازل مع كل لحظة فخار لنعود فنتحصن بين جدران النواح. كنت أظنّ أن ثمة تاريخ متخيّل للمناحة لدى كل شعوب الأرض لترسم أرضنا، لتمشهد هذه الأرض بصراحة أن التاريخ المتخيّل هنا هو تاريخ الحياة، تاريخ الإبتسامات وتاريخ الركون إلى "فضاوة البال". أما التاريخ الحقيقي عندنا فهو تاريخ النواح. يا لهذه البلاد الجائحة حيث لا رأي يُقطع به إلا ذلك الرأي الذي يستبطنه فعل النواح.

مع كل حرب، مع كل قهر، مع كل شهيد... ثمة استذكار لتاريخ النواح، بل ثمة تطوير مسهب لكل أسباب وضروب الفجيعة. لست أدري إذا ما كنا كلنا في هذه البلاد المنكوبة نشترك في فجيعة واحدة، لكني على يقين هائل بأننا نجتمع في حفلة لا نهائية من النواح بطقوس عديدة.

يبدو أن بلدنا "المشحّر" لا يتجاوز أن يكون معبداً ضخماً لطقوس النواح. تشعّ الجثث، يترامى الدمع، تتواثب الأيدي الملوحة للموت لندخل بعدها جميعاً في مواكب البكاء.

ربما يجب علينا في هذا البلد "اللقطة" أن نحتاط، إذ ثمة من يتربّص بعاديات أيامنا. على أذهاننا أن تظل متوقدة، إذ يبدو أن المناحة تتعقّب أيامنا. فعبر كل شارات النصر والزحف المبين وتهالك الإنتصارات والقبضات المرفوعة... عبر كل هذا، ثمة من يتصيّد هفوات الحياة العادية ليرمي بنا داخل جدران تتلطى خلفها مناحاتنا التي تتحيّن لحظة الإنقضاض.

تبدو تلك الجثث، وذلك الدمار، فضلاً عن التشرد المذل وافتراش الأرصفة والطرق، بمثابة فيض خاطر القلب للنواح وفيض خاطر العين لسكب الدمع أبد الدهر. فإذا كان نواح الشعوب الغابرة هو من أجل استنزال المطر (دمع السماء) كما تخبرنا الأساطير، فإن ثمة نواحاً آخر لا يكفّ عن فضّ رسائل العيون واستنزال الحروب والموت وحرق الأخضر واليابس وحرق القلوب والأنامل الرقيقة.

من المضني أن لا نوقّع فوق نصّ العالم إلا بحبر الدموع، ومن المضني أن يخترق طقس النواح سائر طقوسنا. لست أدري إذا ما كان على كل أرض أن تكون أرض تحسّر وخسران أو أرض كرب وبلاء، لكن تتالي أيامنا في هذه البلاد يضمر حكماً أن علينا أن نتقاسم حُسن الفجيعة... أن نتشارك طقوس المناحة الكبرى.

يبدو أن مواكب الدمع التي قد ألفناها بعزم تنطوي على تداخل حميم بين الحاضر والماضي، بين الآن والمنسي بين الأبد و"تاريخ الخلاص". يبدو أن ثمة تطفّلاً وقحاً تمارسه أفراحنا وضحكاتنا ورأفتنا بأنفسنا ضد مناحتنا الكبرى، ضد هذا النص الهائل الذي نقرأ عبر كلماته المتشحة بالدموع كل كلمات العالم.

تُثبت هذه البلاد الفاجعة أنه من غير المجدي أن نتطاول بأعناقنا إلى غير جهة المناحة، فذاكرة مستقبلنا تمكث هناك وقد تطاولت بأطرافها إلى كل اتجاه. إن ذاكرة مستقبلنا الميّت هي رهن مواكب نواحنا.

النواح هنا هو السردية الأكثر ألفة... إنه الأب والأم وهو البيت الذي يحوينا جميعاً، بيت الأحزان حيث القوة الشاهقة لأبد الدمع وهلع العويل. لقد صير إلى سَوقنا لأن نعتبر أن النواح ليس مجرد عنصر عابر في معمعات حياتنا، بل تراه العنصر الأفصح عن نمط وجودنا. ثمة تشبّث بنمط آخر من الوجود في هذه البلاد... الوجود المأتمي، الوجود الجنائزي، وجود دوم النواح، وجلّ ما يمكن أن نستغرق فيه في هذا السياق هو ترقّب طقوس الدمع بانتظار الفجيعة المقبلة... بانتظار المناحة التالية.