ترميم تدمر: الروس والأسديون يبحثون عن "الانتصارات الحضارية"
غير أن ما توقف عنده كثيرون، كان غياب منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونيسكو) عما يجري، رغم ادعاء الروس في أوقات سابقة، عن حصولهم على موافقتها، على ما يقومون به.
ومع اقتراب شهر تشرين الأول الحالي من نهايته، وتوقع بدء عمليات الترميم، على يد خبراء روس وسوريين، حسب الإعلانات السابقة، تظهر أسئلة إضافية، تبدأ، بعدم وجود إعلان صريح من اليونيسكو بالموافقة على تفاصيل وحيثيات العملية، وقد لا تنتهي بالبحث عن موقف ديالا بركات وزيرة الثقافة الحالية من القضية، التي تولت منصبها قبل فترة وجيزة خلفاً للدكتورة لبانة مشوح، خصوصاً وأنها كباحثة، تحمل دكتوراة في المنحوتات الحجرية الرومانية، وإجازة في الآثار، وأن تجربتها العملية تتركز حول تدمر، حين عملت معاونة رئيس دائرة آثار حمص، ورئيسة شعبة التنقيب فيها، ورئيسة لجنة جرد متحف تدمر الوطني، وشاركت في توثيق أضرار متحف تدمر، ضمن فريق المديرية العامة للآثار والمتاحف عام 2016.
قد لا يرى البعض أهمية لرأي وزيرة ثقافة، تعمل في حكومة أسدية، في قضية أتُفق عليها مسبقاً، من قبل جهتين، غير خاضعتين للمحاسبة أو المساءلة في أعراف العمل الحكومي، هما الأمانة السورية للتنمية والأكاديمية الروسية للعلوم! وأن دور الوزير (أي وزير) لا يعدو الموافقة والتوقيع! لكن الإشكالية الحاصلة بما يخص عملية ترميم قوس النصر، الذي فجره تنظيم الدولة الإسلامية الإرهابي بتاريخ 05/ 10/ 2015 تتجاوز الشؤون الإدارية، لتتحدّد في قضايا تخصصية مهمة جداً، كالسؤال عن طبيعة المواد، التي ستستخدم في عملية الترميم. وهذا مسار يبدأ بالأصل من عند قدرة الجهات المرمّمة، على الحصول على الأحجار الأصلية، وجواز استبدال الناقصة والتالفة بأخرى، كما أن عملية الترميم بذاتها يجب أن تتابع من قبل جهات تتمتع بالكفاءة، وبالمؤهلات، وأيضاً سلطة اتخاذ القرارات وتنفيذها، بما في ذلك إيقاف العملية، في حال لم يتمتع المرممون بالمهارات الفنية اللازمة.
(جنود روس وسوريين يعتلون حجارة معبد بل المدمر)
سبق أن أثيرت هذه الأسئلة، في لقاءات حضرت فيها اليونيسكو، حيث قال الخبراء الذين تعاقدت معهم في العام 2019 "بعدم بدء أي أعمال ترميم كبيرة في تدمر لحين إجراء دراسات مفصلة لتحديد أفضل سبل القيام بذلك" (انظر تقرير المدن بتاريخ 02/06/2023).
كما أن يمنى تابت، اختصاصية البرامج في وحدة الدول العربية، في مركز التراث العالمي التابع لـ"اليونيسكو"، أشارت إلى أن التخطيط والدراسات التفصيلية ضروريان، لأن أعمال الترميم غالباً ما تتضمن خيارات صعبة. على سبيل المثال إذا كانت مواد البناء الأصلية التي يمكن استخدامها لترميم الموقع شحيحة "هل يستحق الأمر ترميمه بأقل قدر من الأصالة، أم أنه من الأفضل بدلاً من ذلك التركيز على توثيق ثلاثي الأبعاد لكيف كان؟" كما أن الاشتغال على الترميم يجب ألا يذهب إلى استعمال موارد غير واضحة المصدر، أو تخالف القرارات الدولية، بحسب تأكيد تابت، التي أشارت إلى وجود " نقص كبير في التمويل حتى الآن لجميع المواقع في سوريا"، وإلى "أن المانحين الدوليين كانوا حذرين كي لا ينتهكوا العقوبات المفروضة على سوريا من جهات عديدة، منها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي".
غير أن أخطر الأسئلة الغائبة، عن جدول أعمال الروس، الذين يبدون في المشهد، وكأنهم قد حصلوا على المشروع الأهم في مجاله، على المستوى العالمي، ينطلق من التفكير بجواز عملية الترميم كلها. حيث ثمة صراع تقليدي بين الخبراء، حول مشروعية القيام بترميم الآثار، إذ يرى المعترضون بأن الترميم تزوير، يغير في تاريخ الأثر! ويتجدّد هذا الرفض عند الحديث عن أي عملية ترميم. وهذا الأمر لا يمكن اعتباره مجرد اختلاف في وجهات النظر، بل إن ذلك يرتبط بأسباب تتعلق بقلّة الشفافية في أخذ القرار من قبل اليونسكو، والتخوّف من أن ينفرد الخبراء والمنظمات الحكومية بحسم الأمر من دون استشارة المجموعات المحلية، حسب الباحثة الكندية كريستينا كامرون الأستاذة وصاحبة الكرسي الكندي للبحث في التراث، في مدرسة الهندسة المعمارية بجامعة مونريال، التي فصلت في هذا الشأن عبر مقالة نشرتها اليونيسكو ذاتها بمناسبة الدورة 41 للجنة التراث العالمي التي تحتضنها مدينة كراكوف ببولونيا في شهر يوليو2017.
الباحث شيخموس علي المختص بالآثار السورية، والذي سبق له أن أعد تقريراً عن التعدّيات التي لحقت بمدينة تدمر من شباط 2012 إلى حزيران 2015، عرض لـ"المدن"، التفاصيل عن كيفية حصول الروس على موافقة أولى من اليونيسكو. وتحدث عن إن الرئيسة السابقة إيرينا بوكوفا، حولت تدمر إلى مادة للاستهلاك في سبيل حصولها على دعم روسيا، من أجل الترشح لمنصب الأمين العام للأمم المتحدة، بعد أن أعلنت بلغاريا ترشيحها للمنصب في شباط عام 2016، حيث تباحثت في نهاية شهر آذار للعام نفسه مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، من أجل البدء بالترميم، وتبع ذلك تواصل مع مأمون عبد الكريم، المدير العام للآثار والمتاحف.
وقد أعلن الآثاريون السوريون رفضهم لخطوات بوكوفا، وقاموا بحملة في الصحافة الأوروبية للاعتراض على إيداع الأمر بين يدي الجهات الروسية.
وعن أسباب رفض المختصين السوريين، لتدخل الخبراء الروس، قال شيخموس علي: إن الروس لا يملكون خبرة بآثار مدينة تدمر، كما أنهم لم يشاركوا بالعمل في الحقل الآثاري السوري، فضلاً عن أن الأمر يجب ألا يخضع للمبارزات بين هذه الجهات. بل إن قضية تدمر، تحتاج إلى تشكيل هيئة دولية، يشترك فيها كل المعنيين من الخبراء، للخروج بالقرارات المناسبة، سيما وأن السؤال عن فحوى عملية الترميم يظهر بقوة عند الحديث عن تدمر، فإذا كان الموضوع هو إعادة بناء، فإن هناك إمكانية لإعادة بناء المدينة كلها، لكن هذا لا يجوز أبداً، وإذا كان لابد من الترميم فإن على لجنة الخبراء الدوليين، أن تضع خطة تفصيلية، تحدّد فيها المستوى الذي يجب أن تصل إليه العملية، وأيضاً تحديد الآثار المستهدفة بها، هل هو قوس النصر فقط، أم يجب أن تشمل معبد بعد شمين، ومعبد بل. ووفق أي منهجية يجب أن يتم ذلك، أم يجب أن نترك الآثار على حالها.
إذاً، ثمة إشكالية قائمة، لا يجب أن يتم العبور إلى خطوات عملية من دون حلها، ومن دون التوافق عليها. كما أن هناك أمراً يجب التوقف عنده، بالنظر إلى أن الوضع السوري لم يستتب حتى الآن، وأن أي عملية ترميم مستعجلة، لن تكون إلا محاولة للاحتيال في الظرف الحالي، بغية الحصول على انتصارات مفبركة على عجل، للجانب الروسي وللنظام السوري نفسه!
كما أن الوضع الحالي في إقليم الشرق الأوسط، يستدعي تأجيل البدء بالترميم، إلى حين انتهاء الظروف الطارئة. وحسب متابعين مختصين، فإن هذا الخيار يبدو أفضل الممكنات، مما يتيح للمعنيين وقتاً أكبر، لدراسة التفاصيل بعمق، واستكمال الإجابة عن الأسئلة الملحة المطروحة أعلاه.