الكاهن سليمان فرنيني... صفحة مغيّبة من تاريخ المسرح العربي
ويرجع هذا العجز إلى أسباب متعددة، أولها: نقص المصادر والمراجع الخاصة بالمؤلفين، لا سيما منهم أولئك الذين قدموا مساهمات أولى، ثم ضاعت أخبارهم في ركام الزمن. وثانيها: أن الباحثين الذين قاموا بالتحقيب لهذه المرحلة، كانوا قلة قليلة، مما جعل من مؤلفاتهم مصادر شبه نهائية بالنسبة إلى مئات الدارسين الذين اعتمدوا على هذه الإسهامات[1]، فإذا لم يُذكر أحد المسرحيين، الذين عملوا في التأليف أو الإخراج أو التمثيل، في كتبهم، بات حاله، كما لو أنه لم يولد أبداً في دنيا الفن المسرحي. ويمكن اعتبار السبب الثالث، ذاتياً، أي أنه يرجع إلى وضع أصحاب النتاجات أنفسهم، فحين يقرر أي منهم، أن يترك هذا الفضاء، فإنه يهمل تجربته، ولا يسعى لتوثيقها، الأمر الذي يؤدي إلى غيابه بشكل كامل، أو مرور تجربته بشكل عرضي في السياق.
ومن بين الأسماء المسرحية العربية التي أُهملت، ولم تذكر في المراجع والمصادر التي وثّقت أسماء رواد المسرح العربي، يظهر اسم شبه مجهول هو المؤلف السوري - اللبناني الخوري سليمان فرنيني. ورغم أن اسمه لا يظهر سوى مرة أو مرتين في سياق ذِكر أعمال الرواد الآخرين في كتب مثل "تاريخ المسرح العربي" للدكتور فؤاد رشيد، وكتابي الدكتور سيد علي إسماعيل "مسيرة المسرح في مصر" و"الرقابة والمسرح المرفوض (١٩٢٣–١٩٨٨)، إلا إن تتبع سيرة الرجل في ما لو حصل، كان سيمكّن الباحثين من العثور، على أكبر عدد من النصوص المسرحية، التي كتبها مؤلف عربي واحد منذ بداية المسرح العربي، ويمكن بذلك اعتباره بحق، أكثر المؤلفين المسرحيين الرواد غزارة في التأليف.
غير أن سيرة فرنيني، المولود في 15 آب 1872، بقيت مجهولة حتى اللحظة، ولم تُكتب عنها أي مقالة أو دراسة، وبذلك فإن ما نكتبه الآن، لا يعد اكتشافاً بقدر ما يمكن اعتباره إضاءة غير مسبوقة على جزء من تاريخ المسرح العربي، سيتم استكمالها لاحقاً عبر تحقيق أعماله المسرحية وغير المسرحية، وإتاحتها للقارئ.
إهمال سيرة فرنيني، المولود لأب بيروتي وأمّ دمشقية، أو بالأحرى غيابه عن المشهد المسرحي العام في المنطقة، لا يمكن تحميل مسؤوليته لدارسي المسرح الذين تكاسلوا عن البحث فيها أو السعي وراء تفاصيلها، بل تتعدد الأكتاف التي يجب أن تحمل هذا التغييب. ولعل أول من سيتحمل المسؤولية هو سليمان فرنيني نفسه الذي عُرف في البداية باسم سليم، قبل أن يعتمد في مخطوطاته اسم سليمان. فقد تسببت الخيارات التي مضى بها في حياته، في جعله بعيداً من مساحة الاهتمام، فهو وبحسب سيرته الذاتية التي دوّنها بنفسه، وبعدما بدأ بتأليف الروايات التمثيلية، سافر إلى مصر في العام ١٨٩٣ ليعمل هناك في المحلات التجارية، بالتوازي مع متابعته الكتابة وتقديمه النصوص لجوق اسكندر فرح، الذي كان رئيس التمثيل فيه وقتئذ المطرب الشهير الشيخ سلامه حجازي.
لكنه، وبعدما نال بعض النجاح في هذا المجال، قرر العودة إلى بيروت في العام 1895، ليعمل أستاذاً للغة العربية في مدرسة بلدة دوما الوطنية. وفي سنة ١٨٩٨ سافر الى أنطاكية مديراً لمدرستها الأرثوذكسية، ثم انتقل إلى حلب مديراً لمدارس الروم الأرثوذكس، وأستاذاً للغة العربية في المدرسة الأسقفية للروم الكاثوليك، في عهد مطرانها ديميتريوس القاضي.
وفي بداية العام ١٩٠٨ جاء إلى بيروت، وطلب أن يصبح كاهناً، فسِيم شماساً إنجيلياً، فكاهناً من قبل السيد جراسيموس مسرة في بداية العام 1908، في كنيسة القديس جاورجيوس الكاتدرائية، وقد استلم رئاسة أعمال جمعية دفن الموتى في بيروت، مدة ثلاث سنوات، أنشأ خلالها "مأوى الغرباء" و"دار العجزة".
وفي 15 آب 1912. عيّنه غبطة البطريرك غريغوريوس الرابع، البطريرك الأنطاكي، كاهناً ووكيل مطران في اسكندرونة، وأقام هناك سبعة شهور، ثم غادرها قاصداً الولايات المتحدة، بعد مخابرة أسقف بروكلن، ورئيس الرسالة الروحية في كافة أميركا الشمالية رافائيل هواويني، فوصل نيويورك في ٣٠ تموز ١٩١٣، وعيّن كاهناً لكنيسة القديس يوحنا الدمشقي في بوسطن ماس، وفيها ألف جمعية الاتحاد الروحي، وجمعية نهضة الفتاة للآنسات، وجمعية مريم البتول للسيدات، وأنجزت بمساعيه عملية انشاء مبنى كنيسة القديس يوحنا الدمشقي.
تظهر في لائحة مؤلفات فرنيني، عشرات الأعمال المسرحية التي كتبها خلال سنوات تنقله في سلك التعليم، كما تفصح تفاصيل المناسبات التي وثقها، من خلال ذكره لما قاله فيها من الشعر، أنه قد قدم بعض هذه النصوص على خشبات المدارس التي عمل فيها، لكن الأمر الذي جعله بعيداً من الأنظار، ربما هو انغماسه في سلك التعليم أولاً، والسلك الكهنوتي ثانياً، وصولاً إلى تنقله بين المدن السورية، والخروج بعدها من جغرافية المنطقة كلها صوب المهجر.
لكن هذه الفترة، هي الفترة ذاتها التي جالت فيها أبحاث المؤرخين للمسرح العربي، أي أنه في هذا الوقت كان حاضراً، رغم انشغاله الحياتي، لكنه اختار أن يمضي بعيداً، تبعاً للخيارات الأساسية في حياته. لكن وصوله إلى أبعد نقطة في الخريطة عن وطنه، لا يعني، وكما يفترض، أن يكون خارج مساحات البحث التي وثقت للآداب العربية في المهجر، لكننا للأسف، لا نعثر في المؤلفات التي نهجت هذا السبيل على أي ذكر له، رغم أنه لم يكن في بوسطن مجرد رجل دين، بل كان ناشطاً ثقافياً ومسرحياً، ليس في مجال الكتابة فحسب، بل في العمل على الخشبة، حيث تظهر في مخطوطة إحدى مسرحياته، ملاحظات إخراجية أولية، مع ذكر لأسماء الممثلين الذين أدّوا الأدوار على الخشبة.
في وقت ما، خلال زمن الهجرة في أميركا، أدرك سليمان فرنيني أن تجربته تستحق أن تُذكر، وأن تكون حاضرة أمام المعنيين، فاختار أهم الأعمال التي كتبها وأعاد تدوينها في ستة مجلدات كتبها بخط يده، وسمّاها "الحديقة"، وقد وثق لحجم ما قام بتأليفه في مقدمته لكتاب يضم ديوانَيه "نفثات الصبا" و"شعور الروح" المطبوعَين في المطبعة السورية في بوسطن في العام 1920 وقال: "وقد بلغ ما ألّفه من الروايات التمثيلية حتى اليوم، خمسة وأربعين رواية، مثّل أكثرها في مدارس دوما وحلب وبيروت وطرابلس الشام، وكلها أدبية أخلاقية تهذيبية، وبعضها تاريخي لم يُطبع بعد. وقد باشر الناظم الآن طبع هذا الديوان مسمياً اياه نفثات الصبا (...) ويليه ديوان شعور الروح وهو يحتوي على منظوماته بعد ارتقائه لدرجة الكهنوت. أما رواياته العديدة ومقالاته وخطبه فقد جمعها في خمس مجلدات (دعاها الحديقة وكل مجلد يحتوي على تسعماية صحيفة وسوف يباشر طبعها تباعاً خدمة للآداب"[2]لكن الوقائع التي نستكشفها هنا، تفيد بأن هذه المجلدات لم تنشر، رغم أنه أوصى في إحدى صفحات الكتاب بأن يقوم ورثته بطباعتها، فجاء في الصفحات الأولى من المجلد السادس وتحت عنوان "كلمتي" قوله: " كلمتي: إلى أولادي وصحبي من بعدي، وضعت في حياتي العملية حديقتي بأعدادها الستة وقد حوت ما عن لهذا العاجز من المواضيع الأدبية والروايات والمحاورات والأناشيد وضيق يدي حال دون نشرها في عالم الأدب وظلت محفوظة بين مجلدات هذه الحديقة تذكاراً خالداً لمن يطالعها من بعدي فاذا انقضت الحياة ودعاني الرب إليه ولم أتوفق لطبعها ونشرها أكلف أولادي وأحفادي أن يعتنوا بذلك ليكون عملهم مخلداً لذكري والله اسأل ان يوفقهم في أعمالهم في حال لم يتمكن من فعل ذلك، وبقيت الحديقة بمجلداتها السنة مخطوطة".
لكن وصية الرجل لم تنفذ، وبقيت المخطوطات بحوزة جهة ما عشرات السنين، حتى قامت جامعة بوسطن بتوفيرها للقراء كمخطوطات غير مطبوعة.
ينتهي توثيق فرنيني لحياته الشخصية عند حدود العام 1920، ولا نعثر في أي من المخطوطات المتعدّدة بين مسرحيات منفردة ومجلدات "الحديقة"، على أي ذِكر لتفاصيل حياته سوى بعض الشذرات عن حياته العائلية. لكن تاريخ كنيسة يوحنا الدمشقي، في مدينة بوسطن يوضح أن القس سليمان فرنيني وصل إلى بوسطن قادماً من دمشق، سوريا. وبعدما خدم كقس ضيف لأشهر، طُلب منه أن يصبح أول قس دائم لكنيسة القديس يوحنا الدمشقي.
في ديسمبر 1925، قدم القس سليمان فرنيني استقالته، وفي العام 1935، طُلبت منه العودة إلى كنيسة القديس يوحنا. كان الأب فرنيني متحمساً جداً لإعادة شباب الرعية إلى تراثهم. لكن الأقدار لم تمهله كثيراً حيث توفي في 1 مايو 1939. وقد طويت صفحة فرنيني المؤلف المسرحي بعد ذلك، وغاب اسمه في مجاهل التاريخ.
تضم لائحة أعماله المسرحية وبحسب الدراسة الأولية لمخطوطاته، أعمالاً كثيرة وهي: أليس فتاة النهر، الفتاة الشجاعة، أميرة العفاف بنلوبا امرأة عولس، ابن الشعب، الفتاة البريئة، الحرب بين الشرف والغرام، الأخوين أو عاقبة الحسد، خرستيانا، جنفياف، فتح الأندلس، الملك شارلمان، الخليين الوفيين، الفتاة المفقودة، نابليون بونابرت في منفاه، الأمين بن هارون الرشيد، الغادة الباسلة، بوليفكتوس، أسيري الشهامة، عروس اللص، البريء المختلس، غادة الوفاء أو هكتور ابن الغاب، ملكة يوم، الملكين هنري وادوارد، الأميرة لاذياس، الرجل الجهنمي، المتهم البريء، الدوقة جاني دي براشيانو، نابليون وجوزفين، الاسبانية الفتانة، الفيلسوف والرجل الغيور، نسيم البخيل، البنت وخالتها، الهندية الأمريكية، الشريف الشرير، عواطف البنين، العفو القاتل، كاسر القلوب، الملكة المترجلة، العاشق اليائس، لص إنكلترا، ماري ثيودور، محمد علي باشا في فتوته، محمد علي باشا حين توليه مصر، الممثلة الروسية، شجرة الميلاد، السر الهائل، الصديق المجهول، فتاة الغدير، ابن الغاب، ابن النجار، استبداد الوالدين، الأمير عبد الرحمن المراكشي، الانتقام العادل، الباغي الأثيم، الأمير عبد الرحمن الناصر، الرجل الغادر، الزوج الغريب، الزوجة الوفية، المحب الغادر أو ماري بواسو، المستعصم بالله الخليفة، المماليك ومحمد علي، اليابانية المخلصة، الأمير عبد القادر الجزائري، شهيدة الواجب وضحية الحب.
وبالإضافة إلى هذه المسرحيات، فإن أعماله الشعرية التي تحتاج إلى تحقيق، تتوزع في مجلدات مخطوطات "الحديقة"، بالإضافة إلى دراستين، الأولى وهي كتاب تعليمي بعنوان "البيان لعقد الجمان" يتضمن: المعاني والبيان والبديع والعروض. والثانية دراسة بعنوان "النغمات الشجية في التراتيل الكنسية". كما تتضمن لائحة الأعمال عشرات العِظات الكنسية، والرسائل، والمحاورات، التي تتوزع اهتماماتها بين الشؤون المجتمعية إلى النقاشات السياسية عن أوضاع المجتمع السوري بين الوطن والمهجر.
_____________________