النزوح تحت سماء معادية
لم تعد السماء فوقنا سقفاً تحمله أعمدة الأرض، كما علمتنا الكتب المقدسة ووعّاظ الدين. أضحت هاوية تقذف حممها النارية على أبناء الأرض وأحيائهم وبيوتهم المتواضعة، وعلى مدنهم ودساكرهم. أضحت ملعباً تناور فيه القاصفات الإسرائيلية بالنار، وتشنّ هجماتها الشرسة، بكلّ غِلٌها التاريخي التوراتي، على الحرث والنسل، غير مبالية بما ينجم عنها من أهوال، ومجازر دموية متنقلة، لم يشهد لبنان نظيراً لها من قبل.
ومع أنّ الدماء ما زالت تسيل، يحدو بعضاً منا الأملُ أن نستعيد ما سبق أن خسرناه، من أنفس وأموال وفرص ضائعة، ومردّ هذه الخواطر المتفائلة أننا اعتدنا على اجترار الماضي، وتكرار التجارب غير المجدية، والوهم بأن الظروف متماثلة، وأنّ الأرض لا تدور. في حين أن اليد قاصرة عن ردّ العدوان، حيث لا إمكانية سياسية أو ميدانية مؤثرة، أو محفظة مالية للإيفاء بوعد العمران، أو حتى القدرة على تنفيذه، او تحديد توقيته، أو ظروفه. بيد إنْ وضعت الحرب أوزارها كما نتمنى، فإنّ ما سيحدث ليس تعويضاً، أو استبدال منزل بآخر، كما تُستبدل آلة ميكانيكية بآلة أخرى، أو يجري إصلاحها، أو ترميم ما تعطّل فيها من تروس.
ما كانت المنازل التي ننزح عنها مرغمين، بعدما أضحت خاوية على عروشها، ونحن تحت سماء من لهيب النار المستعرة، إلا الحجر الأساس في تكوين ذاكرتنا التي اطلقت العنان لمشاعر الانتماء لهوية طفولية أولية، جعلت من منازلنا صوراً عن ذواتنا. والعلامة النهائية للتمييز بين الخاص والعام. تحمينا جدرانها ممن يحاول تخطي حدودنا. من الآخر المتطفل، أو المتربّص، أو الطامع. وترسي الحدود بيننا كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات.
تشكل المنازل معلماً أساسياً في رقي البشرية وتطورها. ووجودُها في العديد من ألبومات الأطفال، وفي أغاني الأطفال ناجمٌ عن قيمتها الرمزية. وغالباً ما تماثلت صورة الجسد بصورة المنزل، وفق ما أوضحه التحليل النفسي. وعبّرت حالات الرعب الليلي والمخاوف المسائية التي تساور أذهان الصغار قبل النوم وبعده، عن التطفّل الخبيث على المنزل.
وإذا شُرّعت أبواب منازلنا، فهي تحمل معها القوة الترحيبية بالضيوف والأصدقاء والأقرباء. كما تسهر عيون النوافذ على الحوافي تراقب وتتأمل، وتحرس أجفان الأطفال وأنفاسهم. نوافذ مضيئة، أو مطفأة، أو محجوبة خلف الستائر، مُتيّمة أحياناً بالعيون المقابلة لها، الراغبة الشاخصة نحوها. ومن خلال إطار هذه النافذة، حين يحييها نور الشمس، نشاهد مساراً يومياً صاخباً لحشود راجلة من المارة المتدافعين والمستغرقين في هواجسهم وحساباتهم.
والنافذة مفتوحة ومغلقة، هي بمثابة رئة المنزل في شهيقها وزفيرها. ويعمل السقف على تنسيق المسافة العمودية بين السماء والأرض. السقف هو الجزء السماوي الذي يعيد إنتاج النموذج الأصلي الذي يجعل الإنسان أقرب الى الكون الذي لا يمكن المساس به. واذا كان المعبد هو النموذج الأرضي المزدوج للنموذج السماوي، فإن السقف يجعل التحالف بين المادة والروح ملموساً. معنى أن تكون بلا سقف، كناية عن غياب المنزل. عن غياب الأمان. عن غياب صدر الأم الحنون الذي يحتضننا، ويكفكف دموعنا. فالمسكن يسكن الروح والذاكرة التي تأبى أن تضمحل. المسكن هو ارواحنا وانفاسنا، وملعب أطفالنا وخربشاتهم على الجدران ودفاتر المدرسة، وقهقهاتهم، وصرخاتهم المعلقة في فضاءات الغرف.
المسكن هو مستودع أحلامنا وأسرارنا وانكساراتنا وخيباتنا. هو شريط العائلة الممتد من المهد الى اللحد، صوراً ترسم خطوات الزمن على الوجوه والملامح..هو الشهادات المدرسية والجامعية الممهورة بأختام مدراء المدارس والجامعات التي يتباهى بها الأهل، ويفاخرون بعضهم بعضاً بنجاح اولادهم وتفوقهم. هو الهدايا المتواضعة بين الأصدقاء والخلان التي تزين الفيترينات الزجاجية. والميداليات التذكارية، التي تمثّل ايقاع النشاطات الاجتماعية، والمباريات الرياضية لأهل البيت.
المسكن ليس بُعداً، أو عمقاً مكانياً، بقدر ماهو حالة كامنة وافتراضية لتمثيل الماضي. المسكن هو أكثر حضوراً في النفس عند غيابه عن العين. لا يمكنك أن تعزله عن الذاكرة الدالة على إفراط الحياة اليومية المغمورة بإيقاعات الزمن، والخاضعة لذكريات الطفولة الذائبة في خضم الحياة العملية، والاستحضار المستمر لصور حميمية عصية على النسيان، والإحساس بدفء خفي يغمر العائلة، خلف الجدران الداخلية المحمية، المغلفة بعبق الزمان، وذاكرة الأجداد والأباء، وعراقة الموروثات العائلية. المنزل هو الخلية الأولى في بناء الوطن الأم، وجذر الأمومة الذي يجسد خريطة الذاكرة الفردية والجماعية. الكائن العائلي الاجتماعي، والمسرح الحيوي لنشاطات المرء، وخط الحماية من نوازل الدهر ونوائبه، وخط حماية حقوقه، وخط الاندماج والانفصال. وإذا كان المنزل الذي نولد فيه يمثّل نقطة الانطلاق الأصلية الرحمية. وإذا كانت ذاكرة البيت تبدأ بالميلاد، فإنها تمر كل يوم بمعركة الحياة ضد انحطاط الزمن. والبيت ليس حيزاً جغرافياً ومكانياً منفصلاً، إنما يدخل في لوحة شاملة، ومجموعة معقدة من الانتماءات والعواطف التي تمثّل النطاق الوطني، والمنظور المشترك، والأسطورة السردية الوطنية التأسيسية التي يتم تناقلها.
يقدّم المنزل هبة الحياة، ويفرض إيقاعاً مريحاً للزمن المعلق، الذي يؤخر الفوضى التي يجلبها الموت، في الوقت نفسه الذي يستوعب فيه العالم.
ومع أنّ الدماء ما زالت تسيل، يحدو بعضاً منا الأملُ أن نستعيد ما سبق أن خسرناه، من أنفس وأموال وفرص ضائعة، ومردّ هذه الخواطر المتفائلة أننا اعتدنا على اجترار الماضي، وتكرار التجارب غير المجدية، والوهم بأن الظروف متماثلة، وأنّ الأرض لا تدور. في حين أن اليد قاصرة عن ردّ العدوان، حيث لا إمكانية سياسية أو ميدانية مؤثرة، أو محفظة مالية للإيفاء بوعد العمران، أو حتى القدرة على تنفيذه، او تحديد توقيته، أو ظروفه. بيد إنْ وضعت الحرب أوزارها كما نتمنى، فإنّ ما سيحدث ليس تعويضاً، أو استبدال منزل بآخر، كما تُستبدل آلة ميكانيكية بآلة أخرى، أو يجري إصلاحها، أو ترميم ما تعطّل فيها من تروس.
ما كانت المنازل التي ننزح عنها مرغمين، بعدما أضحت خاوية على عروشها، ونحن تحت سماء من لهيب النار المستعرة، إلا الحجر الأساس في تكوين ذاكرتنا التي اطلقت العنان لمشاعر الانتماء لهوية طفولية أولية، جعلت من منازلنا صوراً عن ذواتنا. والعلامة النهائية للتمييز بين الخاص والعام. تحمينا جدرانها ممن يحاول تخطي حدودنا. من الآخر المتطفل، أو المتربّص، أو الطامع. وترسي الحدود بيننا كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات.
تشكل المنازل معلماً أساسياً في رقي البشرية وتطورها. ووجودُها في العديد من ألبومات الأطفال، وفي أغاني الأطفال ناجمٌ عن قيمتها الرمزية. وغالباً ما تماثلت صورة الجسد بصورة المنزل، وفق ما أوضحه التحليل النفسي. وعبّرت حالات الرعب الليلي والمخاوف المسائية التي تساور أذهان الصغار قبل النوم وبعده، عن التطفّل الخبيث على المنزل.
وإذا شُرّعت أبواب منازلنا، فهي تحمل معها القوة الترحيبية بالضيوف والأصدقاء والأقرباء. كما تسهر عيون النوافذ على الحوافي تراقب وتتأمل، وتحرس أجفان الأطفال وأنفاسهم. نوافذ مضيئة، أو مطفأة، أو محجوبة خلف الستائر، مُتيّمة أحياناً بالعيون المقابلة لها، الراغبة الشاخصة نحوها. ومن خلال إطار هذه النافذة، حين يحييها نور الشمس، نشاهد مساراً يومياً صاخباً لحشود راجلة من المارة المتدافعين والمستغرقين في هواجسهم وحساباتهم.
والنافذة مفتوحة ومغلقة، هي بمثابة رئة المنزل في شهيقها وزفيرها. ويعمل السقف على تنسيق المسافة العمودية بين السماء والأرض. السقف هو الجزء السماوي الذي يعيد إنتاج النموذج الأصلي الذي يجعل الإنسان أقرب الى الكون الذي لا يمكن المساس به. واذا كان المعبد هو النموذج الأرضي المزدوج للنموذج السماوي، فإن السقف يجعل التحالف بين المادة والروح ملموساً. معنى أن تكون بلا سقف، كناية عن غياب المنزل. عن غياب الأمان. عن غياب صدر الأم الحنون الذي يحتضننا، ويكفكف دموعنا. فالمسكن يسكن الروح والذاكرة التي تأبى أن تضمحل. المسكن هو ارواحنا وانفاسنا، وملعب أطفالنا وخربشاتهم على الجدران ودفاتر المدرسة، وقهقهاتهم، وصرخاتهم المعلقة في فضاءات الغرف.
المسكن هو مستودع أحلامنا وأسرارنا وانكساراتنا وخيباتنا. هو شريط العائلة الممتد من المهد الى اللحد، صوراً ترسم خطوات الزمن على الوجوه والملامح..هو الشهادات المدرسية والجامعية الممهورة بأختام مدراء المدارس والجامعات التي يتباهى بها الأهل، ويفاخرون بعضهم بعضاً بنجاح اولادهم وتفوقهم. هو الهدايا المتواضعة بين الأصدقاء والخلان التي تزين الفيترينات الزجاجية. والميداليات التذكارية، التي تمثّل ايقاع النشاطات الاجتماعية، والمباريات الرياضية لأهل البيت.
المسكن ليس بُعداً، أو عمقاً مكانياً، بقدر ماهو حالة كامنة وافتراضية لتمثيل الماضي. المسكن هو أكثر حضوراً في النفس عند غيابه عن العين. لا يمكنك أن تعزله عن الذاكرة الدالة على إفراط الحياة اليومية المغمورة بإيقاعات الزمن، والخاضعة لذكريات الطفولة الذائبة في خضم الحياة العملية، والاستحضار المستمر لصور حميمية عصية على النسيان، والإحساس بدفء خفي يغمر العائلة، خلف الجدران الداخلية المحمية، المغلفة بعبق الزمان، وذاكرة الأجداد والأباء، وعراقة الموروثات العائلية. المنزل هو الخلية الأولى في بناء الوطن الأم، وجذر الأمومة الذي يجسد خريطة الذاكرة الفردية والجماعية. الكائن العائلي الاجتماعي، والمسرح الحيوي لنشاطات المرء، وخط الحماية من نوازل الدهر ونوائبه، وخط حماية حقوقه، وخط الاندماج والانفصال. وإذا كان المنزل الذي نولد فيه يمثّل نقطة الانطلاق الأصلية الرحمية. وإذا كانت ذاكرة البيت تبدأ بالميلاد، فإنها تمر كل يوم بمعركة الحياة ضد انحطاط الزمن. والبيت ليس حيزاً جغرافياً ومكانياً منفصلاً، إنما يدخل في لوحة شاملة، ومجموعة معقدة من الانتماءات والعواطف التي تمثّل النطاق الوطني، والمنظور المشترك، والأسطورة السردية الوطنية التأسيسية التي يتم تناقلها.
يقدّم المنزل هبة الحياة، ويفرض إيقاعاً مريحاً للزمن المعلق، الذي يؤخر الفوضى التي يجلبها الموت، في الوقت نفسه الذي يستوعب فيه العالم.