سيرة نصرالله(1): فتىً يتمنّى أن يصبح مثل موسى الصدر

محمد حجيري
الثلاثاء   2024/10/01
نصرالله شابا
لا شك في أن السيد حسن نصرالله من الشخصيات النادرة، في سيرته وكايرزماه وقدراته. "مالئ الدنيا وشاغل الناس"، بتعبير المتنبي. ومع اغتياله، أصبح بمرتبة الأسطورة – الرمز أكثر مما كان في حياته. وُصف بـ"حسين عصرنا"، مع ما يرمز إليه هذا التوصيف من أهمية. هنا حلقة أولى من محاولة لكتابة جوانب من سيرته، تستند إلى بعض مقابلاته، وسيرة كتبها يوماً بخط يده لمجلة إيرانية.
 
ولد السيد حسن عبدالكريم نصر الله في الأول من آب 1960، في حي "الشرشبوك"، وهو أحد الأحياء الشيعية في منطقة الكرنتينا، في شرق بيروت ذي الغالبية المسيحية. وخلال إحدى مقابلاته، وصف نصر الله حي "شرشبوك" حيث ولد وعاش، بـ"حي الفقراء، وعاش فيه مسلمون شيعة وسنة ومسيحيون وأرمن وأكراد"، وأضاف: "ولدتُ وعشتُ في بيئة مختلطة ومتنوعة"، وهناك تعرف على معاناة اللجوء الفلسطيني، كما قال. هو الابن الأكبر في عائلة فقيرة متواضعة اجتماعياً، مؤلفة من أحد عشر عضواً، فكان له تسعة أخوة وأخوات. في البداية، لم يكنْ على علاقة بالسياسة، والده كان بقالاً أو بائع خضر وفواكه في منطقة "الكرنتينا"، وكان يعلّق على جدار محله، صورة الإمام موسى الصدر، وكثيراً ما كان السيد نصرالله يجلس أمام الصورة محدقاً محملقاً فيها، وفي نفسه تمنى أن يصبح مثله.

بحسب كتاب "الإمام المختفي: موسى الصدر وشيعة لبنان"، لفؤاد عجمي، ففي المناطق الشيعية في لبنان، وفي الأحياء الفقيرة من بيروت وفي قرى وادي البقاع وفي الجنوب، كانت الملصقات التي تحمل صورة الإمام الصدر موجودة في كل مكان، وكان الصدر مُطالَباً به من قبل سياسيين بارعين، ومن طبقة متوسطة شيعية جديدة تتوق الى مكانتها الخاصة، ومن قبل شبان حالمين بالتفاؤل أُخرجوا من قرى الجنوب إلى حالة الفوضى والاضطراب في بيروت. لم يكن هؤلاء الشبان يعرفون رجال الدين. يذكر البعض، الصدر، كرجل ذي متطلبات بسيطة، ويتباهون بتواضعه فيقولون إنه تجوّل في سيارة فولكسفاكن صغيرة. البعض الآخر يتذكره كشخصية فريدة، رجل يحب أتباعه، هئيته تشي بحضور طاغٍ، ومأسوي في مظهره، شَعره الظاهر من تحت عمامته لم يسبق للناس أن لاحظوه على رجل دين، وهو الذي قدّم نفسه طوال سنوات كمدافع عن القضية الفلسطينية في لبنان.

وكان طموح نصرالله أن يكون رجل دين. في مقابلة معه، يقول: "منذ كنت في التاسعة من عمري، كانت لدي خطط لليوم الذي سأبدأ فيه القيام بهذا، عندما كنت في العاشرة أو الحادية عشرة من عمري، كانت جدتي ترتدي وشاحًا. كان أسود اللون، لكنه طويل. اعتدتُ أن ألفّه حول رأسي، وأقول لهم إني رجل دين، ويجب أن تصلّوا ورائي". لم يكن هناك مسجد في حي الكرنتينا حيث يقطن، فكان يذهب الى مسجد في سن الفيل أو برج حمود أو الى أسرة التآخي في النبعة للصلاة، وكان السيد محمد حسين فضل الله يُشرف على هذا المسجد.

وكان نصر الله يقرأ كل ما تقع عليه يداه من مادة للقراءة، لا سيما الكتب الإسلامية، فإذا شرع في قراءة كتاب لم يفهمه، وضَعه جانباً ليقرأه حينما يصبح أكبر سناً. وكان في التاسعة من عمره، عندما بدأ يقصد ساحة البرج، في وسط بيروت، ليحصل على كتب من باعة الكتب المستعملة الذين كانوا يفرشونها على الرصيف قرب بناية اللعازارية.

وفي المرحلة الابتدائية، التحق نصر الله بمدرسة "النجاح" في حي "الكرنتينا"، وعندما انتهى من المرحلة الابتدائية و"السرتفيكا"، انتقل إلى مدرسة الرسمية سن الفيل، ليواصل تعليمه. وعلى أبواب نيران الحرب الأهلية اللبنانية العام 1975، اضطرت أسرته إلى مغادرة "الكرنتينا" إلى بلدة البازورية الجنوبية-مسقط رأسه، وهناك أسس مكتبة صغيرة بمساعدة الشيخ علي شمس الدين ثم صار يعطي دروساً دينية مبسطة للشباب ممن يترددون على المكتبة، ودرس في ثانوية مدينة صور الساحلية.

قبل ذلك ـ حينما كان لا يزال يقطن في حي الكرنتيناـ لم يكن أي من أفراد أسرته منتمياً لأي من الأحزاب السياسية. في الوقت نفسه، كان العديد من المنظمات السياسية ـ وبعضها منظمات فلسطينيةـ نشطاً في المنطقة. إنما، في ما بعد، حين عادت العائلة الى البازورية، انخرط مع شقيقه حسين في صفوف حركة أمل. وكان هذا خياراً اتجه إليه بشغف شديد، لأنه كان شديد الاعجاب بالإمام موسى الصدر. في ذلك الوقت كان لا يزال في الخامسة عشرة من عمره، وكانت حركة أمل تُعرف بـ"حركة المحرومين"، على الرغم من صغر سنه، فإنه سريعاً ما أصبح ممثل الحركة في بلدته.

في الجنوب أو جبل عامل، تعرف إلى الإيراني مصطفى شمران، وهو أكاديمي وباحث في مجال الفيزياء الحيوية والهندسة، ثم أصبح نائباً في البرلمان الأول بعد الثورة، ووزير دفاع لإيران خلال الحرب العراقية-الإيرانية، وسافر إلى لبنان لتأسيس قاعدة لتدريب المجاهدين الإيرانيين على حرب العصابات واستطاع بمساعدة الإمام موسى الصدر، زعيم الشيعة في لبنان، تأسيس حركة المحرومين ومن ثم جناحها العسكري تحت عنوان "أمل" (أفواج المقاومة اللبنانية) على أساس المبادئ والتعاليم الإسلامية.

تكتب مواقع إيرانية أن السيد نصر الله تعلم على يدَي مصطفى شمران عندما كان ناشطًا في حركة أمل وهو في ابن 15 عاماً. لم يطُل الوقت قبل أن يتخذ نصرالله الشاب قراراً حاسماً بالذهاب إلى النجف في العراق، وكان وقتها بالكاد في السادسة عشرة من العمر، وواجه عقبات كثيرة في طريق ذهابه. في أحد الأيام، وفي مسجد في مدينة صور، قابَل علّامة اسمه السيد محمد الغروي. كان يعمل هناك مدرساً، نيابة عن الإمام موسى الصدر. وبمجرد أن سمع منه أنه يريد الذهاب الى النجف لتلقي العِلم، كتب رسالة وأعطاه إياها. كان محمد الغروي صديقاً مقرباً ومفضّلاً للسيد محمد باقر الصدر. وكانت الرسالة التي زوَّد بها الشاب حسن، رسالة توصية لالتحاقه بصفوف هذا العلامة البارز. سافر نصرالله الى النجف في 15 شباط 1976، وهناك التقى السيد عباس الموسوي الذي كان على صلة وثيقة بالصدر، فاعتنى به في مستهل إقامته في النجف وكان أستاذه لسنة ونصف السنة.
 
درس حسن نصر الله المقدمات، وهي المرحلة الأولى من الدراسات الحوزوية، وخلالها يدرس الطالب منطلقات النحو والصرف والبلاغة والفقه والمنطق والأصول، وبعضاً من التفسير وعِلم الحديث. فمن الكتب التي درسها السيد، "قطر الندى وبلّ الصدى" لجمال الدين الأنصاري،  و"مختصر المعاني" للتفتازاني، و"علل الشرائع" للقمّي... وغيرها من الكتب التي تؤهل الطالب الالتحاق بمرحلة السطوح، وهي المرحلة الثانية، وفيها يدرس الطالب كتاب "اللمعة الدمشقية" للشهيد الأول العاملي، و"فرائد الأصول" للعلامة الأنصاري، بالإضافة إلى بعض كتب الفلسفة والعقيدة والكلام.. وفي هذه المراحل، تعرف نصر الله على أفكار صدر الدين الشيرازي والطبطبائي والأنصاري.

عاد الى لبنان في حزيران 1978، بعدما ضيّقت المخابرات العراقية البعثية على الطلاب الدارسين في النجف، وتابع تحصيله الديني في مدرسة الإمام المنتظر، التي أسسها السيد عباس الموسوي في بعلبك وكان مديرها والأستاذ فيها، ولم يكن عدد طلابها يتجاوز الثمانية. تابع نصر الله نشاطه السياسي في حركة أمل في البقاع، وتنقل في مسؤوليات عديدة، ثم تولى المسؤولية التنظيمية في إقليم البقاع، ثم رئاسة المحكمة التنظيمية، واعتُبر مسؤولاً سياسياً في المكتب السياسي للحركة حتى العام 1982.