"الغيرة الفنية" وحرب العصابات... القتل في بلاد الهيب هوب

محمد حجيري
السبت   2023/08/12
نجوم الهيب هوب في الذكرى الخمسين لانطلاق الحركة الموسيقية
قبل خمسين عاماً، وتحديداً في 11 أغسطس/آب 1973، أقام بعض المراهقين حفلة العودة إلى المدرسة، مجرّد حفلة في غرفة تقع في الطابق السفلي لمبنى في جادة سيدجويك في حي برونكس النيويوركي. في ذلك المكان الذي وُصف بالكئيب، أقدم الدي جي DJ، وهو اختصار لتعبير "فارس الاسطوانات" أو منسقها، المتحدّر من جامايكا، كلايف كامبل، على تشغيل أسطوانة موسيقية على آلتين لقراءة الأسطوانات، ثم عزل تسلسل الإيقاعات وبثها عبر مكبرات صوت، مقدّماً ما يُعرف بالـ"بريك بيت" الذي يشكل العنصر الأساس في موسيقى الهيب هوب.

منذ ذلك الحين، تطورت موسيقى الهيب هوب وانفجرت، وبات مستحيلاً اليوم تخيل العالم اليوم من دونها. وهي تختبر وتثور وتتحدّى أي تعريف واحد. "نوع موسيقي مليء بكل أنواع العبث الإشكالي"، قال الكاتب أوليفر كينز. وهي لا تعتمد على رافد واحد، بل هي مزيج من الراب والتنسيق الموسيقي والرقص والغرافيتي محمولاً بجيل متحمس. وعدا الصّورة الرّائجة للدي جي وتلاعبه بالأصوات الموسيقية، يمثّل رقص التقطيع أو Break dance جزءاً أساسياً من هذا الفن، حيث يتحرّك الراقص بكل رشاقة وبهلوانية على رأسه وبطنه ويديه. وربّما يغيب عن البعض انتماء فن الغرافيتي إلى ثقافة الهيب هوب أيضاً.


وعندما كانت الحياة صعبة ويسودها العنف في بعض أحياء نيويورك حيث يستشري الفقر والمخدرات والجريمة، كانت "الحفلات الجماعية" الأولى بمثابة مُتنفس للمراهقين والعائلات الساعية للهروب من "واقع صعب، خصوصاً التمييز الاجتماعي والعنصري" الذي كان يُمارس في حقها، بحسب تقرير لفرانس برس. كان فرسان الأسطوانات أو منسقوها يُفرحون السكان (…) ويدفعونهم لنسيان همومهم وتمضية أمسية جميلة. وبحلول العام 1979، تزايدت شعبيّة هذا الفن المتشعّب لتتحول إلى تصنيف منفصل ينجذب إليه الكثير من المعجبين. في التّسعينيات راج الراب بقوة وتحول منصّة للشّباب الراغبين في نشر رسائل اجتماعيّة وسياسيّة منعكسة من الشّارع والأحياء قبل أن تغزو الولايات المتحدة والعالم مع مساهمتها في تحقيق مليارات الدولارات، واستحالت الهيب هوب حركة اجتماعية ثقافية ولم تكتف بكونها مجرد أسلوب، فيما دخلت مختلف المجالات من الموسيقى إلى الموضة وصولاً إلى الرقص. في العام 2017، تجاوزت موسيقى الهيب هوب، موسيقى الروك أند رول باعتبارها النوع الأكثر شعبية من الموسيقى في الولايات المتحدة. 


واللافت في حركة الهيب هوب، وبغض النظر عن تفاصيل انتشارها من أميركا إلى العالم العربي والهندي، هو عدد القتلى من نجومها وروادها... فقد خلصت دراسة أجريت العام 2015 إلى أن القتل كان سبب 51.5% من وفيات موسيقي الهيب هوب الأميركي. وأشارت الدراسة إلى أن هذا الرقم يشير في المقام الأول إلى الوفيات المبكرة لأن معظم موسيقيي الهيب هوب لم يعيشوا طويلاً بما يكفي للوقوع في الفئات العمرية الأكثر عرضة للإصابة بأمراض القلب والكبد. 

ونشر موقع "ويكيبيديا" لائحة موسيقيي الهيب هوب المقتولين، وهم بالعشرات في مدن الولايات المتحدة(نيويورك، ميتشغن، لوس انجليس، هيوستن، لاس فيغاس) وبعضهم قتل في كندا أو البرازيل أو هولند، وغالبية عمليات القتل حصلت بالرصاص، ومرات بالضرب أو الطعن...

توباك شاكور
وفي العام 2011، احتفالاً بالذكرى الـ15 لمقتل نجم الهيب هوب، توباك شاكور، كشفتْ مجلة "تايم" الأميركية عن أشهر جرائم القتل التي أودت بحياة 10 من نجوم موسيقى "الهيب هوب". وضمّت "تايم" في لائحتها كلاً من توباك شاكور، نوتوريوس بي إي جي، وجام ماستر جاي، وإم بون، وبيغ إل، وغيرهم، توقعت أن غالبية جرائم قتل هؤلاء النجوم، وإن لم يتم توصل فيها إلى منفّذها أو إلى مدبّريها، إلا أنها قد ترجع في الأساس الى "الغيرة الفنية"، والتنافس بين الفنانين الذي قد يدفع بعضهم إلى التخلص من منافسيهم. فشاكور الذي ما زالت قضيته تتفاعل حتى الآن منذ نحو ثلاثة عقود، كان عمره الفنّي قصيراً نسبياً، لكن حضوره كبير، فهو حقق شهرة في العام 1993، جعلته يتعرّض لمحاولة قتل في العام 1994، عند وجوده مع بعض مغنّي الراب في أحد الاستديوهات لتسجيل إحدى أغنياته. علماً أن المغني نوتوريوس بي إي جي، والذي كان متواجداً في ذلك الاستوديو، اتُّهم بأنه وراء تلك الحادثة، لكنه استطاع الدفاع عن نفسه، لأنه كان حينها من المقربين لشاكور. أدّت تلك الحادثة إلى تغيير الطبيعة الشخصية لتوباك شاكور، إذ سيطرت عليه مشاعر الشك وعدم الثقة، وهاجم منافسيه في أغانيه، ومن بينهم نوتوريوس بي إي جي.


الغيرة الفنية والعداء اللذان تولدا ربّما بين توباك شاكور ونجوم الهيب هوب الآخرين، الذين أشار إليهم شاكور في أغانيه بمصطلح "حرب الراب بين الساحل الشرقي والساحل الغربي"، قد يكونان هي السبب الرئيس وراء حادث قتله بإطلاق الرصاص، العام 1996. وكثُرت الاتهامات التي طاولت بعض النجوم أمثال سنوب دوغ، ونوتوريوس بي إي جي، وشون كومز، إلا أن مكتب التحقيقات لم يستطع التوصل إلى الجاني وبقيت الجريمة مسجلة ضد مجهولين، وظل مقتل شاكور لغزاً بلا حلّ، فيما استمرت التكهنات والنظريات الجامحة بشأنه في الانتشار في وسائل الإعلام الموسيقية وبين محبي شاكور. افترضت إحدى النظريات أن نايت، صاحب تسجيلات شاكور، هو الذي دبّر مصرعه كي يستغل موت نجم الراب تجارياً. ومن الأساطير الصادمة أيضاً أن شاكور ادَّعى موته حتى "يهرب من ضغوط النجومية".  

الأكثر تأثيراً
ولا يبعتد لغز مقتل شاكور، عن لغز مقتل أو موت جون لينون وماريلين مونرو وجيمس دين وبروس لي وجيم موريسون. وعلى الرغم من وفاته في سنّ مبكرة، يُعتبر شاكور حتّى اليوم أحد أكثر مغني الراب تأثيراً وجماهيريةً. إذ حصل على 6 جوائز "غرامي"، وأصدر 5 ألبومات في حياته، فيما صدرت 3 ألبومات أخرى بعد وفاته. وكان قد وجد في غناء الراب متنفساً ومتسعاً للحديث والتعبير عن المشاعر بلا قيود ولا حدود، فتحدث عن الحب وعن الجنس، عن ظلم الدولة له ولأقرانه وتعديات رجال الشرطة، وتم سجنه العديد من المرات بسبب ذلك. ولم تدُم مسيرة شاكور الموسيقية سوى 5 سنوات، مع ذلك وصلت 21 أغنية من أعماله إلى لائحة بيلبورد لأفضل 100 أغنية، أبرزها "دير ماما" و"أولد سكول" العام 1995، إضافة إلى أغنيته "هاو دو يو وانت إت؟" في 1996.

ما يثير للدهشة ان نوتوريوس بي إي جي أو "ملك نيويورك"، المشتبه فيه في قتل أول الفنانين في لائحة "تايم" لأشهر نجوم الهيب هوب الذين لقوا مصرعهم على أيدي مجهولين، هو نفسه ثاني نجوم الهيب هوب في تلك اللائحة، وتعرض أيضاً للاغتيال على أيدي مجهولين. وظلت قضيته لغزاً، ولم يستطع أحد أن يجزم بالسبب وراء مقتله؛ هل كانت جريمة عنصرية، أم حرباً تنافسية بينه وبين المغني شاكور، أم حرب عصابات؟ لكن فيلم "مدينة الأكاذيب" من بطولة جوني ديب، يربط بين مجموعة من الأحداث وقعت في تلك الفترة، ويثير شكوكاً بأن هناك "مؤامرة" خلف ما حدث، وهي أن الجريمة لم يستحِل حلها، لكن تم التستر عليها. وبعد سنوات من التحقيق، اتضح أن العائق الأكبر أمام كشف الحقيقة ليس مدى براعة مرتكبيها في التستّر عليها، بل المشتبه فيهم في الوقوف وراءها؛ وهم ضباط شرطة لوس أنجليس الذين تورّط بعضهم في العمل لدى عصابات ارتكبت جرائم قتل واتجار بالأسلحة والمخدرات.

جرائم أخرى
وعدا عن تقرير "تايم" حول الجرائم الغامضة التي طاولت نجوم الراب، بالعودة إلى المواقع الاخبارية والصحف الالكترونية، نلاحظ أن وتيرة اغتيال نجوم الهيب هوب، ما زالت سائدة ومرتفعة نسبياً. ففي العام 2018، قُتل مغني الراب الأميركي، أكس أكس أكس تنتايشن، البالغ 20 عاماً، بعد تعرضه لإطلاق نار في مدينة ميامي الأميركية، ويعتبر الفنان أحد أهم المغنين في الجيل الجديد من موسيقى الهيب هوب في الولايات المتحدة. وكان تنتايشن محور جدل بسبب أعمال العنف الضالع فيها. وسبق أن تمت إدانته بتهمة الاعتداء، وكان ينتظر محاكمته في قضية يُتهم فيها بأنه قتل صديقته السابقة الحامل. وسُحبت أعماله من لوائح "سبوتيفاي" في إطار سياسة لمنصة البث التدفقي هذه التي لا تريد الترويج لفنانين قاموا "بتصرف حاقد أو مؤذ".

وفي العام 2021 قُتل المغني يونغ دولف، داخل متجر محلي للكعك في مسقط رأسه بمدينة ممفيس بولاية تينيسي. وهو يحظى بإعجاب واسع في مجتمع الهيب هوب بسبب أصالته واستقلاليته الشديدة. وفي الفترة نفسها، قُتل مغني الراب البنجابي، شبديب سينغ سيدو، المعروف باسمه الفنّي سيدو موس والا(28 عاما)، أثناء قيادته سيارته في منطقة مانسا، في ولاية البنجاب شمالي الهند. وبحسب "أسوشييتد برس"، فإنّ التحقيق الأولي كشف أنّ القتل جاء في إطار صراع بين العصابات. وكانت حكومة البنجاب سحبت الغطاء الأمني عن 400 شخص، من بينهم موس والا، قبل يومٍ واحدٍ من الهجوم، في محاولة لتضييق الخناق على ثقافة تمييز الشخصيات المهمّة أو المعروفة. كان المغنّي شخصيةً جدليّة، ويرجع ذلك بشكل جزئي إلى أسلوبه الغنائي. ففي العام 2020، اتّهمته الشرطة بموجب قانون الأسلحة الهندي بالترويج لثقافة السلاح في إحدى أغانيه.

وفي تشرين الثاني 2022، قتل تيكوف، عضو فرقة "ميغوس" ومغني الراب الأميركي المعروف والذي يبلغ 28 عاماً، بعد تعرضه لإطلاق نار بولاية تكساس في صالة للبولينغ في حيث كان يسهر برفقة أحد أعضاء فرقته. ولم تكشف الشرطة عن الدافع وراء إطلاق النار، لكن تقارير إعلامية متنوعة قالت إن إطلاق النار كان سببه نزاع يتعلق بلعبة النرد. وفي شباط 2023 قُتل كيرنان فوربس، أحد أبرز مغني الراب في جنوب إفريقيا والمعروف بلقب "ايه كاي ايه"، بطلقة نارية أثناء مغادرته أحد المطاعم في دربان جنوب شرقي البلاد.
هذه صورة مختصرة عن واقع ومصائر الكثير من نجوم الهيب هوب في العالم...