"نشيد الأناشيد" في نتاج الأخوين رحباني.. أيضاً وأيضاً
قدم الزميل أسعد قطّان قراءة تحليلية استنبط فيها أثر سفر "نشيد الأناشيد" في نتاج الأخوين رحباني، وذكر في هذه القراءة طائفة من الأغاني التي تشهد لهذا الأثر. والحال إن هناك أعمالاً رحبانية أخرى يتردّد في صدرها هذا السفر الوجداني التوراتي، ومنها ما يعود إلى مرحلة البدايات.
قدم عاصي(*) ومنصور الرحباني في مطلع حياتهما سلسلة طويلة من الأغاني القصيرة غلب عليها الطابع الغربي، واللافت أن مجمل هذه الأغاني جاء باللغة الفصحى، وأنتج إذاعياً ليبث في ركن خاص بالألحان الشبابية الراقصة. تحمل إحدى هذه الأغاني عنوان "فارس"، وهي من تسجيلات إذاعة دمشق في 1952، ومطلعها: خبّروني يا أيّها الرعاةُ/ أين يرعى قطيع ساحري/ كيف أمضي والربى موحشاتُ/ ذاب قلبي وتاه ناظري/ أي ألقى فتى الربى الرويّ/ سوف آتي مسكنه الهنيّ/ عنه تحكي الشوادي/ وتناجيه الهضاب".
يتردّد في هذه الكلمات صدى "نشيد الأناشيد" بشكل مباشر حيناً، وبشكل خفيّ حيناً آخر. نقرأ في الإصحاح الأول من هذا السفر: "أخبرني يا من تحبّه نفسي، أين ترعى، أين تربض عند الظهيرة. لماذا أنا أكون كمقنعة عند قطعان أصحابك؟". وفي الإصحاح الثاني: "هوذا آت طافراً على الجبال، قافزاً على التلال. حبيبي هو شبيه بالظبي أو بغفر الأيائل". "إلى أن يفيح النهار وتنهزم الظلال، ارجع وأشبه يا حبيبي الظبي أو غفر الأيائل على الجبال المشعبة". وفي الإصحاح الخامس: "حبيبي أبيض وأحمر. معلم بين ربوة". وفي السادس: "حبيبي نزل إلى جنته، إلى خمائل الطيب، ليرعى في الجنات".
في هذه الحقبة، قدّم الأخوان رحباني، باسم مستعار، قصيدة صيغت في لحن شرقي صرف، تُعتبر اليوم من كلاسيكياتهما، وهي "إلى راعية". تخرج هذه الأغنية عن النمط العاطفي، غير أن بعض مفرداتها يعيد إلى الذاكرة "نشيد الأناشيد". يغنّى الكورس في هذه مطلع القصيدة الأثيرة: "سوقي القطيعَ إلى المراعي وامْضي إلى خُضر البقاعِ". في المقابل، يقول العاشق في "نشيد الأناشيد": "اخرجي على آثار الغنم، وارعي جداءك عند مساكن الرعاة" (1: 8). وتغني فيروز في القصيدة الرحبانية: "بين المرابع تشرُدين كظبية تهفو اقترابا". وتقول العاشقة في "نشيد الأناشيد": "وكن كالظبي أو كغفر الأيائل على جبال الأطياب" (8: 14).
يتجلّى أثر النشيد التوراتي الشاعري في العديد من الأعمال التي ألّفها الأخوان رحباني في الستينات. في نيسان 1966، قدّم "تلفزيون لبنان" سهرة رحبانية فيروزية بمناسبة عيد الفصح عنوانها "ضيعة الأغاني"، وفيها أنشدت فيروز سلسلة من الأغنيات، منها "يا حلو شو بخاف"، وفيها تقول: "اعملني متل خاتم دهب بإصبعك/ اتركني حاكيك وإسمعك". وفي هذا القول، يتردّد صدى قول العاشقة في "نشيد الأناشيد": "اجعلني كخاتم على قلبك، كخاتم على ساعدك" (8: 6). في العام التالي، قدّم الأخوان رحباني مسرحيّتها الغنائية "هالة والملك"، وفيها غنّت فيروز: "حراس المدينة قالوا صار غياب/ هدموا قصر الزينة/ قفلوا ميّة باب/ حراس المدينة سكروا المدينة/ ونسيوني وحبيبي نسيني". كما في "نشيد الأناشيد"، حيث تقول العاشقة: "إني أقوم وأطوف في المدينة، في الأسواق وفي الشوارع، أطلب من تحبه نفسي. طلبته فما وجدته" (3: 2). وتضيف: "وجدني الحرس الطائف في المدينة. ضربوني. جرحوني. حفظة الأسوار رفعوا إزاري عني" (5: 7).
في 1968، ألّف الأخوان رحباني "أنا لحبيبي وحبيبي إلي"، وكان من المفترض أن تقدّم هذه الأغنية ضمن مسرحية "الشخص"، غير أنّها قدّمت كأغنية مستقلة، وصدرت بعد عامين على أسطوانة مفردة. تتردد تعابير النشيد في كل بيت من أبيات هذه الأغنية بشكل لا لبس فيه، بحيث يمكن القول إنها توليفة رحبانية من وحي "نشيد الأناشيد". في العام التالي، قدّم الأخوان رحباني مسرحيتهما "جبال الصوان"، وتضمّنت هذه الملحمة لوحة دخلت الإذاعة بشكل مستقل تحت عنوان "عيد العنب". في مطلع هذه اللوحة البعيدة، تغني فيروز: "يا رعيان الجبال إذا طلعتوا عالجبال/ قولوا لحبيبي عادت ايام الهوى/ يا قطافين الكروم إذا قطفتو الكروم/ قولوا لحبيبي رجع زمان الهوى". وفي هذا التعابير، يتردّد مرة أخرى صدى النشيد: "تعال يا حبيبي لنخرج إلى الحقل، ولنبت في القرى. لنبكرن إلى الكروم، لننظر: هل أزهر الكرم؟ هل تفتح القعال؟ هل نور الرمان؟ هنالك أعطيك حبي" (7: 12).
بعد هذا المطلع الغنائي العاطفي، ينتقل الأخوان الرحباني إلى حوارية من النوع الاجتماعي تجمع بين أهل جبال الصوان وخيال الكروم. يتحدّث الخيال عن الناطور المتحالف مع الثعلب، ويشير إلى الخراب الناتج عن هذا الحلف: "ناطورنا مشارك/ هو والثعلب/ بيسرقو الكروم/ هو والثعلب". ويعيد هذا الكلام إلى الذاكرة حديث النشيد عن الثعالب التي ألحق الخراب بالكروم: "خذوا لنا الثعالب، الثعالب الصغار المفسدة الكروم، لأن كرومنا قد أقعلت" (2: 15).
في 1968 كذلك، سُجّلت مُغنّاة "القصة الكبيرة" التي لم تصدر كاملة إلى يومنا هذا. في هذه اللوحة البديعة، تلعب فيروز فيها دور "القاطفة السمراء"، وتنشد للذين قدموا للاستماع إلى قصصها أربع أغنيات ترتبط بالفصول الأربعة. من هذه المُغناة، صدرت في 1995 قصيدتان رائعتان هما "أقول لطفلتي"، وهي حكاية الشتاء، و"لا يدوم اغترابي" وهي أغنية الخريف، وفيها تغنّي فيروز: "لا يدوم اغترابي لا غناء لنا يدوم/ فأنهضي في غيابي واتبعيني إلى الكروم/ هيّئيها الدّنان كرمنا بعد في ربى/ يوم تبكي سمانا نُشبع القلب والشفاه/ حبيبتي زنبقة صغيرة أما أنا فعوسج حزين/ طويلا انتظرتها طويلا جلست بين الليل والسنين/ وعندما أدركني المساء حبيبتي جاءت إلى الضياع/ ما بيننا منازل الشتاء يا أسفا للعمر كيف ضاع".
تحاكي هذه الكلمات مناخ نشيد الأناشيد، وتشهد لهذه المحاكاة تعابير عديدة، منها: "أنا نرجس شارون، سوسنة الأودية/ كالسوسنة بين الشوك كذلك حبيبتي بين البنات" (2: 2). "أدخلني إلى بيت الخمر، وعلمه فوقي محبة" (2: 4)."التينة أخرجت فجها، وقعال الكروم تفيح رائحتها. قومي يا حبيبتي، يا جميلتي، وتعالي" (2: 13). "أيتها الجالسة في الجنات، الأصحاب يسمعون صوتك، فاسمعيني" (8: 13).
(*) تمر اليوم الذكرى المئوية لولادته (4 أيار 1923 - 21 تموز 1986).
قدم عاصي(*) ومنصور الرحباني في مطلع حياتهما سلسلة طويلة من الأغاني القصيرة غلب عليها الطابع الغربي، واللافت أن مجمل هذه الأغاني جاء باللغة الفصحى، وأنتج إذاعياً ليبث في ركن خاص بالألحان الشبابية الراقصة. تحمل إحدى هذه الأغاني عنوان "فارس"، وهي من تسجيلات إذاعة دمشق في 1952، ومطلعها: خبّروني يا أيّها الرعاةُ/ أين يرعى قطيع ساحري/ كيف أمضي والربى موحشاتُ/ ذاب قلبي وتاه ناظري/ أي ألقى فتى الربى الرويّ/ سوف آتي مسكنه الهنيّ/ عنه تحكي الشوادي/ وتناجيه الهضاب".
يتردّد في هذه الكلمات صدى "نشيد الأناشيد" بشكل مباشر حيناً، وبشكل خفيّ حيناً آخر. نقرأ في الإصحاح الأول من هذا السفر: "أخبرني يا من تحبّه نفسي، أين ترعى، أين تربض عند الظهيرة. لماذا أنا أكون كمقنعة عند قطعان أصحابك؟". وفي الإصحاح الثاني: "هوذا آت طافراً على الجبال، قافزاً على التلال. حبيبي هو شبيه بالظبي أو بغفر الأيائل". "إلى أن يفيح النهار وتنهزم الظلال، ارجع وأشبه يا حبيبي الظبي أو غفر الأيائل على الجبال المشعبة". وفي الإصحاح الخامس: "حبيبي أبيض وأحمر. معلم بين ربوة". وفي السادس: "حبيبي نزل إلى جنته، إلى خمائل الطيب، ليرعى في الجنات".
في هذه الحقبة، قدّم الأخوان رحباني، باسم مستعار، قصيدة صيغت في لحن شرقي صرف، تُعتبر اليوم من كلاسيكياتهما، وهي "إلى راعية". تخرج هذه الأغنية عن النمط العاطفي، غير أن بعض مفرداتها يعيد إلى الذاكرة "نشيد الأناشيد". يغنّى الكورس في هذه مطلع القصيدة الأثيرة: "سوقي القطيعَ إلى المراعي وامْضي إلى خُضر البقاعِ". في المقابل، يقول العاشق في "نشيد الأناشيد": "اخرجي على آثار الغنم، وارعي جداءك عند مساكن الرعاة" (1: 8). وتغني فيروز في القصيدة الرحبانية: "بين المرابع تشرُدين كظبية تهفو اقترابا". وتقول العاشقة في "نشيد الأناشيد": "وكن كالظبي أو كغفر الأيائل على جبال الأطياب" (8: 14).
يتجلّى أثر النشيد التوراتي الشاعري في العديد من الأعمال التي ألّفها الأخوان رحباني في الستينات. في نيسان 1966، قدّم "تلفزيون لبنان" سهرة رحبانية فيروزية بمناسبة عيد الفصح عنوانها "ضيعة الأغاني"، وفيها أنشدت فيروز سلسلة من الأغنيات، منها "يا حلو شو بخاف"، وفيها تقول: "اعملني متل خاتم دهب بإصبعك/ اتركني حاكيك وإسمعك". وفي هذا القول، يتردّد صدى قول العاشقة في "نشيد الأناشيد": "اجعلني كخاتم على قلبك، كخاتم على ساعدك" (8: 6). في العام التالي، قدّم الأخوان رحباني مسرحيّتها الغنائية "هالة والملك"، وفيها غنّت فيروز: "حراس المدينة قالوا صار غياب/ هدموا قصر الزينة/ قفلوا ميّة باب/ حراس المدينة سكروا المدينة/ ونسيوني وحبيبي نسيني". كما في "نشيد الأناشيد"، حيث تقول العاشقة: "إني أقوم وأطوف في المدينة، في الأسواق وفي الشوارع، أطلب من تحبه نفسي. طلبته فما وجدته" (3: 2). وتضيف: "وجدني الحرس الطائف في المدينة. ضربوني. جرحوني. حفظة الأسوار رفعوا إزاري عني" (5: 7).
في 1968، ألّف الأخوان رحباني "أنا لحبيبي وحبيبي إلي"، وكان من المفترض أن تقدّم هذه الأغنية ضمن مسرحية "الشخص"، غير أنّها قدّمت كأغنية مستقلة، وصدرت بعد عامين على أسطوانة مفردة. تتردد تعابير النشيد في كل بيت من أبيات هذه الأغنية بشكل لا لبس فيه، بحيث يمكن القول إنها توليفة رحبانية من وحي "نشيد الأناشيد". في العام التالي، قدّم الأخوان رحباني مسرحيتهما "جبال الصوان"، وتضمّنت هذه الملحمة لوحة دخلت الإذاعة بشكل مستقل تحت عنوان "عيد العنب". في مطلع هذه اللوحة البعيدة، تغني فيروز: "يا رعيان الجبال إذا طلعتوا عالجبال/ قولوا لحبيبي عادت ايام الهوى/ يا قطافين الكروم إذا قطفتو الكروم/ قولوا لحبيبي رجع زمان الهوى". وفي هذا التعابير، يتردّد مرة أخرى صدى النشيد: "تعال يا حبيبي لنخرج إلى الحقل، ولنبت في القرى. لنبكرن إلى الكروم، لننظر: هل أزهر الكرم؟ هل تفتح القعال؟ هل نور الرمان؟ هنالك أعطيك حبي" (7: 12).
بعد هذا المطلع الغنائي العاطفي، ينتقل الأخوان الرحباني إلى حوارية من النوع الاجتماعي تجمع بين أهل جبال الصوان وخيال الكروم. يتحدّث الخيال عن الناطور المتحالف مع الثعلب، ويشير إلى الخراب الناتج عن هذا الحلف: "ناطورنا مشارك/ هو والثعلب/ بيسرقو الكروم/ هو والثعلب". ويعيد هذا الكلام إلى الذاكرة حديث النشيد عن الثعالب التي ألحق الخراب بالكروم: "خذوا لنا الثعالب، الثعالب الصغار المفسدة الكروم، لأن كرومنا قد أقعلت" (2: 15).
في 1968 كذلك، سُجّلت مُغنّاة "القصة الكبيرة" التي لم تصدر كاملة إلى يومنا هذا. في هذه اللوحة البديعة، تلعب فيروز فيها دور "القاطفة السمراء"، وتنشد للذين قدموا للاستماع إلى قصصها أربع أغنيات ترتبط بالفصول الأربعة. من هذه المُغناة، صدرت في 1995 قصيدتان رائعتان هما "أقول لطفلتي"، وهي حكاية الشتاء، و"لا يدوم اغترابي" وهي أغنية الخريف، وفيها تغنّي فيروز: "لا يدوم اغترابي لا غناء لنا يدوم/ فأنهضي في غيابي واتبعيني إلى الكروم/ هيّئيها الدّنان كرمنا بعد في ربى/ يوم تبكي سمانا نُشبع القلب والشفاه/ حبيبتي زنبقة صغيرة أما أنا فعوسج حزين/ طويلا انتظرتها طويلا جلست بين الليل والسنين/ وعندما أدركني المساء حبيبتي جاءت إلى الضياع/ ما بيننا منازل الشتاء يا أسفا للعمر كيف ضاع".
تحاكي هذه الكلمات مناخ نشيد الأناشيد، وتشهد لهذه المحاكاة تعابير عديدة، منها: "أنا نرجس شارون، سوسنة الأودية/ كالسوسنة بين الشوك كذلك حبيبتي بين البنات" (2: 2). "أدخلني إلى بيت الخمر، وعلمه فوقي محبة" (2: 4)."التينة أخرجت فجها، وقعال الكروم تفيح رائحتها. قومي يا حبيبتي، يا جميلتي، وتعالي" (2: 13). "أيتها الجالسة في الجنات، الأصحاب يسمعون صوتك، فاسمعيني" (8: 13).
(*) تمر اليوم الذكرى المئوية لولادته (4 أيار 1923 - 21 تموز 1986).